قوله عز وجل: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } فيه أربعة تأويلات: أحدها: وما عظموه حق عظمته، قاله الحسن، والفراء، والزجاج. والثاني: وما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة. والثالث: وما وصفوه حق صفته، قاله الخليل. والرابع: وما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، قاله ابن عباس. { إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ } يعني من كتاب من السماء. وفي هذا الكتاب الذي أنكروا نزوله قولان: أحدهما: أنه التوراة، أنكر حبر اليهود فيما أنزل منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الحبر اليهودي سميناً، فقال له: " أَمَا تَقْرَءُونَ فِي التَّورَاةِ: أَنَّ اللَّه يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ " فغضب من ذلك وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فتبرأت منه اليهود ولعنته، حكاه ابن بحر. والقول الثاني: أنه القرآن أنكروه رداً لأن يكون القرآن مُنَزَّلاً. وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: قريش. والثاني: اليهود. فرد الله تعالى عليهم بقوله: { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى } يعني التوراة لاعترافهم بنزولها. ثم قال: { نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ } لأن المنزل من السماء لا يكون إلا نوراً وهدىً. ثم قال: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } يعني أنهم يخفون ما في كتابهم من بنوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفته وصحة رسالته. قوله عز وجل: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلَنَاهُ مُبَارَكٌ } يعني القرآن، وفي { مُبارَكٌ } ثلاثة أوجه: أحدها: أنه العظيم البركة لما فيه من الاستشهاد به. والثاني: لما فيه من زيادة البيان لأن البركة هي الزيادة. والثالث: أن المبارك الثابت. { مُّصَدِقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } فيه قولان: أحدهما: الكتب التي قبله من التوراة، والإِنجيل، وغيرهما، قاله الحسن البصري. والثاني: النشأة الثانية، قاله علي بن عيسى. { وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } يعني أهل أم القرى، فحذف ذكر الأهل إيجازاً كما قال:{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]. و { أُمَّ الْقُرَى } مكة وفي تسميتها بذلك أربعة أقاويل:- أحدها: لأنها مجتمع القرى، كما يجتمع الأولاد إلى الأم. والثاني: لأن أول بيت وضع بها، فكأن القرى نشأت عنها، قاله السدي. والثالث: لأنها معظمة كتعظيم الأم، قاله الزجاج. والرابع: لأن الناس يؤمونها من كل جانب، أي يقصدونها. ثم قال: { وَمَنْ حَوْلَهَا } قال ابن عباس: هم أهل الأرض كلها. { وَالَّذِينَ يَؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } وفيما ترجع إليه هذه الكناية قولان: أحدهما: إلى الكتاب، وتقديره: والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب، قاله الكلبي. والثاني: إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديره: والذين يؤمنون بالآخرة، يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لِمَا قد أظهر الله تعالى من معجزته وأَبَانَه الله من صدقه، قاله الفراء. فإن قيل: فيمن يؤمن بالآخرة من أهل الكتاب لا يؤمنون به؟ قيل: لا اعتبار لإِيمانهم بها لتقصيرهم في حقها، فصاروا بمثابة من لم يؤمن بها.