الرئيسية - التفاسير


* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } * { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

قوله عز وجل: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } فيها قولان:

أحدهما: أنها بيت المقدس، قاله ابن عباس.

الثاني: أنها الشام، قاله مجاهد وقتادة.

{ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني بالشجر والثمر والماء. وقيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية.

ويحتمل أن يكون التي باركنا فيها بكثرة العدد.

{ قُرىً ظَاهِرَةً } فيه أربعة أوجه:

أحدها: متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، قاله الحسن، وأبو مالك.

الثاني: أنها العامرة.

الثالث: الكثيرة الماء.

الرابع: أن القرى الظاهرة هي القرى القريبة، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.

وفيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها السروات، قاله مجاهد.

الثاني: أنها قرى لصنعاء، قاله ابن منبه.

الثالث: أنها قرى ما بين مأرب والشام، قاله سعيد بن جبير.

{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ } فيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: قدرنا فيها المقيل والمبيت، قاله الكلبي.

الثاني: أنهم كانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى، قاله الحسن.

الثالث: أنه قدر فيها السير بأن جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة.

{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ } فيه قولان:

أحدهما: من الجوع والظمأ، قاله قتادة. حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلىء من الثمر.

الثاني: آمنين من الخوف قاله يحيى بن سلام، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه.

قوله عز وجل: { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا } قرأ أبو عمرو، وابن كثير { بَعِّد } بغير ألف وبتشديد العين، وقرأ الباقون { بَاعِدْ } بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو اسرائيل المن والسلوى، قاله الحسن.

الثاني: أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى، قاله ابن عيسى، وهو قريب من الأول لأنه بطر. فصار نوعاً من الملل.

الثالث: معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا، حكاه النقاش. وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة.

وقرأ بعض القراء { بَعُد } بضم العين وتخفيفها، وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره.

{ وَظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا، قاله بن زيد.

الثاني: بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر نبياً. قال الكلبي: أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذبون: وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض.

الثالث: أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين، قاله الحسن.

{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صارواْ إليه من هلاك، حتى ضرب المثل فقيل: تفرقوا أيدي سبأ، ومنه قول الشاعر:

باد قوم عصف الدهر بهم   فرقوا عن صرفه أيدي سبأ
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فيه قولان:

أحدهما: أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح، قاله يحيى بن سلام.

الثاني: أنهم مزقوا بالتفريق والتباعد، قاله قتادة.

حكى الشعبي قال: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما خزاعة فحلقوا بمكة، وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة، وأما الأزد فلحقوا بعمان.

{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يحتمل وجهين:

أحدهما: صبار على البلوى شكور على النعماء.

الثاني: صبور على أمر الله شكور في طاعة الله.