قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } اتفقوا على أن الكناية في " أنزلناه " للقرآن، ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ ثقةً بعلم السامع به؛ لموضع نباهته وشُهرته. وقال الزجاج: لم يَجْرِ له ذِكْرٌ في هذه السورة، [ولكنه] جرى فيما قبلها. وقد ذكرنا كيفية إنزاله في ليلة القدر في مقدمة الكتاب. والكلام في ليلة القدر تحصره فصول: الفصل الأول: اختلفوا في تسميتها بليلة القدر على خمسة أقوال: أحدها: أنه من القَدْر، الذي هو بمعنى: العَظَمَة، من قولك: لفلان قَدْرٌ، فسُميتْ بذلك؛ لِعِظَم قدرها عند الله تعالى. قاله الزهري. الثاني: أنه من القَدْر، الذي [هو] بمعنى: الضيق؛ كقوله:{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق: 7] أي: ضيّق عليه. فالمعنى: هي ليلة تضيق فيها الأرض بالملائكة الذين ينزلون من عند الله بالخير والرحمة. قاله جماعة، منهم: الخليل بن أحمد. الثالث: أن الأمور تُقدَّر فيها، كما قال:{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان: 4]، وقد سبق تفسيره في الدخان. قاله قوم، منهم: ابن قتيبة. الرابع: أنه أُنزل فيها كتابٌ ذو قدر ورحمة، ذاتُ قدرٍ، وملائكةٌ [ذوو] أقدار. الخامس: أن من لم يكن له قدْر صار بمراعاتها ذا قدر. قاله أبو بكر الوراق. الفصل الثاني: اختلفوا هل هي باقية أو كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟ على قولين. والصحيح: أنها باقية. واختلفوا هل هي مخصوصة بشهر رمضان، أو تكون في جميع السنة؟ على قولين. والصحيح: اختصاصُها بشهر رمضان. وذهب الأكثرون إلى اختصاص الأفراد من العشر الأخير منه بها، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة والآثار، على ما سنذكره. واختلفوا أيُّ لياليه أخصُّ بها؟ على أقوال: أحدها: ليلة سبع وعشرين. قاله علي وابن عباس وعائشة وجمهور الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وكان أبيّ بن كعب يحلف ولا يستثني: أنها ليلة سبع وعشرين، وإليه ذهب الإمام أحمد رضي الله عنه. الثاني: ليلة إحدى وعشرين, وهو مذهب الشافعي. الثالث: ليلة ثلاث وعشرين. قاله عبدالله بن أنيس. الرابع: ليلة خمس وعشرين. قاله أبو بكرة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الإشارة إلى الدلائل على ذلك: أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر قال: " قلت يا رسول الله: أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال بل: هي في رمضان، قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قُبضوا رُفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة، قلت: في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول أو في العشر [الأواخر]، ثم حدَّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحدَّث، ثم اهْتَبَلْتُ غفلته، فقلت: في أي العشرين هي؟ قال: فابتغوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها... وساق الحديث إلى آخره ".