قوله تعالى: { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ } أي: ردك إلى المدينة { إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } أي: من المخلَّفين، والمراد بالطائفة المنافقون، فإن المخلَّفين لم يكونوا كلهم منافقين. ويجوز أن يكون المعنى: فإن رجعك الله إلى طائفة من المنافقين، وهم الذين أصروا على النفاق ولم يتوبوا، { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } في غزاة، فقل معاقباً لهم بتخلفهم ونفاقهم، ومُسْقِطاً لهم من ديوان الغُزاة، ومُلْحِقاً بهم عاراً وشَنَاراً لا يفارقهم: { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }. قال عامة المفسرين: هي غزاة تبوك. فإن قيل: تبوك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف قال: " أول مرة "؟ قلت: قد أجاب عنه الماوردي فقال: أول مرة دعيتم أو رضيتم به أول مرة قبل استئذانكم. ويجوز عندي أن يقال: المراد بالأولية هاهنا: مبادئ الغزوات، وتبوك وإن تأخرت يصدق عليها كونها أولاً، كما يقال: كان هذا في أول الإسلام. فإن قيل: قد علم الله تعالى أنها آخر غزوات رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف أمره أن يقول لهم: { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ }؟ قلت: المراد بها: إسقاطهم من ديوان الغُزاة -كما أشرت إليه قبل-، وقطع الموالاة والنصرة بينهم وبين المسلمين، وأنهم لا يخرجون مع أهل دينه ولا يقاتلون معهم عدواً. قوله تعالى: { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ } قال ابن عباس: هم ذووا الأعذار من الرجال. وقال الحسن وقتادة: النساء والصبيان. وقيل: المعنى: فاقعدوا مع أهل الفساد، ومنه: نَبِيذٌ خَالِف، أي: فاسد، وخَلَفَ اللَّبن؛ إذا حَمُضَ من طول لبثه في السقاء، وخَلَفَ فَمُ الصَّائم؛ إذا تغيَّرت ريحه. ويجوز أن يكون المعنى: فاقعدوا مع الخالفين. قال الفراء: يقال: عبد خَالِف، وصاحب خَالِف؛ إذا كان مخالفاً. وقيل: المعنى: فاقعدوا مع الخساس من الناس. يقال: فلان خالفه أهله؛ إذا كان دونهم. فإن قيل: كيف أمرهم بما لا يجوز فعله، وهو القعود والتخلف عن نصر الرسول والإسلام؟ قلت: هذا خارج مخرج التهديد؛ كقوله:{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40].