الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ }

قوله تعالى: { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ } أي: وتاب على الثلاثة { ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } وقرأ جماعة منهم جعفر الصادق والشعبي: " خالفوا ".

وقرأتُ لعبد الوارث عن أبي عمرو: " خَلَفُوا " بالتخفيف، أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو بمعنى: فسدوا، ومنه: خَلُوفُ فَم الصائم.

ومن قرأ: " خالفوا "؛ فمعناه ظاهر.

والمعنى على القراءات المشهورة: خُلِّفُوا عن التوبة، وقيل: عن الغزوة. وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع -ويقال: ابن ربيعة-، وهلال بن أمية.

{ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي: بسعتها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } بالهمّ والغمّ.

سئل بعض المحققين عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الأرض وتضيق عليه نفسه؛ كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.

{ وَظَنُّوۤاْ } أي علموا وأيقنوا { أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ } أي: لا وزر ولا معتصم من عذابه وسخطه، { إِلاَّ إِلَيْهِ }. وجواب [ " إذا " ] محذوف، تقديره: ندموا.

{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } فـ " ثم " عاطفة ما بعدها على " ندموا " ، أو بمعنى: " ثم تاب عليهم " رجع عليهم بالرحمة والمغفرة والقبول، { لِيَتُوبُوۤاْ } ليستقيموا على التوبة بتوفيقه ورحمته إياهم.

وقيل: ليتوبوا فيما يستقبلون إن فرطت منهم خطيئة. { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } الرَّجَّاع بالرحمة والقبول ولو عاد في اليوم مائة مرة، { ٱلرَّحِيمُ } بالمؤمنين.

ذكر حديث كعب بن مالك وصاحبيه وما كان من توبتهم:

وقع لي من طرق كثيرة أعلاها سنداً وأحسنها سياقة ومتناً، ما حدثنا به شيخنا الإمام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في ذي القعدة سنة خمس وستمائة بجامع دمشق، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبدالباقي، أخبرنا أبو الفضل جعفر بن يحيى المكي، أخبرنا محمد بن الحسين بن يوسف الأصبهاني، أخبرنا محمد بن أحمد النقوي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن كعب بن مالك عن أبيه قال: " لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً، ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً تخلّف عن بدر، إنما خرج يريد العير، فخرجت قريش مغوثين لعيرهم، فالتقوا على غير موعد، كما قال الله تعالى، لعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها، حتى إذا كان غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها، وآذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل، وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم، وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار، وكان قلما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها، وكان يقول: " الحرب خُدْعَة " - يعني: إلا غزوة تبوك فإنه جلا للناس أمرهم -، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتهم، وأنا أيسر ما كنت، قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة [الحاذ] وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال وطيب الثمار. فلم أزل كذلك حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة، وذلك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس، فأصبح غادياً، فقلت: أنطلق غداً إلى السوق فأشتري جهازي ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر عليّ بعض شأني، فرجعت فقلت: أرجع غداً إن شاء الله فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني، فقلت: أرجع غداً إن شاء الله، فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة، فيحزنني أنني لا أرى أحداً تخلّف إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، وكان ليس أحد تخلف إلا يرى أن ذلك سيخفى له، وكان الناس كثيراً لا يجمعهم ديوان، وكان جميع من تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة وثمانين رجلاً، ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكاً، فلما بلغ تبوكاً قال: ما فعل كعب بن مالك؟ قال رجل من قومي: خلفه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا نبي الله ما نعلم إلا خيراً.

قال: فبينا هم كذلك إذا هم برجل يزول به السراب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وقفل ودنا من المدينة، جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخط النبي صلى الله عليه وسلم وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، حتى إذا قيل النبي صلى الله عليه وسلم هو مصبحكم غداً [بالغداة] زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى فصلّى في المسجد، وكان إذا جاء من سفر فعل ذلك، دخل المسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس، فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم، ويقبل علانيتهم، ويَكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى، فدخلت المسجد فإذا هو جالس، فلما رآني تبسم تبسم المغضب، فجئت فجلست بين يديه فقال: ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى يا نبي الله. قال: فما خلفك؟ فقلت: والله لو بين يدي أحد من الناس غيرك جلست لخرجت من سخطته عَلَيَّ بعذر، لقد أوتيت جدلاً، ولكن قد علمت يا نبي الله أني إن أخبرك اليوم بقول تجد عليّ فيه وهو حق، فإني أرجو فيه عقبى الله، وإن حدثتك اليوم [حديثاً] ترضى عني فيه وهو كذب، أوشك أن يطلعك الله عليّ، والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخفّ حاذاً مني حين تخلفت عنك. قال: أما هذا فقد صدقكم الحديث، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت فثار على أثري أناس من قومي يؤنبونني، فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا، فهلا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعذر يرضى عنك به؟ وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي من وراء ذنبك، ولم تقف نفسك موقفاً لا تدري ماذا يقضى لك فيه، فلم يزالوا يؤنبوني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي, فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قاله هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبداً ولا أكذب نفسي، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيُّها الثلاثة، قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد، وتنكر [لنا الناس] حتى ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالأرض التي نعرف، وكنت أقوى أصحابي، فكنت أخرج وأطوف في السوق وآتي إلى المسجد فأدخل، وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه فأقول: هل حرّك شفتيه بالسلام؟ فإذا قمت أصلي إلى السارية، فأقبلت قبل صلاتي نظر إليّ بمؤخر عينيه، فإذا نظرت إليه أعرض عني، قال: واستكان صاحباي، فجعلا يبكيان الليل والنهار لا يُطلعان رؤوسهما، فبينا أنا أطوف في السوق إذا رجل نصراني قد جاء بطعام له يبيعه يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إليّ، فأتاني وأتاني بصحيفة من ملك غسان، فإذا فيها:

أما بعد! فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك، ولست بدار مضيعة ولا هوان، فالحق بنا نواسك، فقلت: هذا أيضاً من البلاء والشر، فَأَسْجَرْتُ لها التنور وأحرقتها. فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال: اعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: لا، ولكن لا تقربنّها، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف، فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم، ولكن لا يقربنك، قالت: يا نبي الله! والله ما به من حركة لشيء، ما زال مكتئباً يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان.

قال كعب: فلما طال عليّ البلاء اقتحمت على أبي قتادة حائطه - وهو ابن عمي - فسلّمت عليه، فلم يرد عليّ، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة، أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم.

قال: فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجاً، حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا، إذ سمعت نداءً من ذروة سلع: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وعرفت أن الله تعالى قد جاء بالفرج، ثم جاء رجل يركض على فرس يبشرني، فكان الصوت أسرع من فرسه، يعني: فلما جاءني الذي سمعت صوته، فأعطيته ثوبي بشارة، ولبست ثوبين آخرين.

قال: وكانت توبتنا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقالت أم سلمة: يا نبي الله! ألا نبشر كعب بن مالك؟ قال: إذاً يحطمكم الناس ويمنعونكم من النوم من سائر الليلة.

قال: وكانت أم سلمة رضي الله عنها محسنة في شأني تحزن بأمري، فانطلقتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون، وهو يستنير كاستنارة القمر، وكان إذا سرّ استنار، فجئت فجلست بين يديه فقال: أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: يا نبي الله، أمن عند الله أم من عندك؟ قال: بل من عند الله، ثم تلا عليهم: { لَقَدْ تَابَ ٱللهُ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ } [التوبة: 117] حتى بلغ: { ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } ، قال: وفينا نزلت: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ }.

قال: فقلت: يا نبي الله، إن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: أمسك بعض مالك فهو خير لك، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، قال: فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا نكون كذبناه فهلكنا كما هلكوا، وإني لأرجو أن لا يكون الله أبلى أحداً في الصدق مثل الذي أبلاني، ما تعمدت لكذبة بعد، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي "

السابقالتالي
2 3