الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } * { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } * { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } * { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } * { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } * { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } * { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } * { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } يعني: كفار قريش { كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مثل صهيب وعمار وخباب وبلال، وغيرهم من المستضعفين بمكة { يَضْحَكُونَ } استهزاءً بهم.

{ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ } أي: وإذا مَرَّ المؤمنون بالكفار { يَتَغَامَزُونَ } بالأعين والحواجب، على وجه السخرية منهم.

وقال ابن السائب ومقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، وذلك أنه مرّ هو ونفر من المؤمنين بالمنافقين فسخروا منهم وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه، فأنزل الله هذه الآيات قبل أن يصل عَلِيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ } يعني: الكفار { إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ }.

وقرأ حفص: " فَكِهِين " بغير ألف. وقد ذكرنا وجه القراءتين في يس.

والمعنى: انقلبوا متلذذين بالاستهزاء والسخرية من المؤمنين.

{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ } أي: وإذا رأى كفار مكة أصحاب محمد { قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ }. وصفوهم بالضلال؛ لمباينتهم عبادة الأصنام، ومخالفتهم ما كان عليه أسلافهم.

قال الله تعالى: { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ } يعني: الكفار على المؤمنين { حَافِظِينَ } يحفظون عليهم أعمالهم أي: [لم] يُوكَّلوا على ذلك، فما لهم يحكمون عليهم بالضلال، ويسجلون عليهم به. وفيه تهكُّم بالكفار.

وجوّز بعضهم أن يكون هذا من تمام قول الكفار، وأنهم إذا رأوا المؤمنين قالوا: إن هؤلاء لضالون، وأنهم [لم] يرسلوا عليهم حافظين؛ إنكاراً لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه هو ومن يعاضده من المؤمنين، من صدّهم عن الشرك، ودعائهم إلى التوحيد.

{ فَٱلْيَوْمَ } يعني: في الآخرة { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }.

قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم [فيها]: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }.

{ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } إلى عذاب عدوهم.

وقوله: " على الأرائك ينظرون " في محل الحال [من] " يضحكون ".

وقد ذكرنا عند قوله في الصافات:فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 55] كيفية اطلاع أهل الجنة على أهل النار.

قوله تعالى: { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ } وقرأ حمزة والكسائي: " هل ثوب " بإدغام اللام في الثاء؛ لقرب مخرجهما.

والمعنى: هل جُوزوا. يقال: ثوّبه وأثابه؛ إذا جازاه.

قال أوس:
سَأجْزِيكِ أوْ يُجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ   وحَسْبُكِ أن يُثْنَى عليكِ وتُحْمَدِي
والمعنى: هل جُوزي الكفار بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا.

والاستفهام بمعنى التقرير، ومضمونه: تعظيم ما جُوزوا به من العذاب المهين.

ومن هذا الطرز ما كتبه بعض الفضلاء، المبرّزين في العلوم الشرعية والأدبية إلى قاض، وكان بلغه أنه غَضَّ منه فذكر كلاماً بليغاً في معرض القَدْح فيه إلى أن قال:
يا حَاكِماً صَدّ عَنِّي   وسَلَّ سَيْفَ التَّجَنِّي
ضَيَّعْتَ لي منك   ما قدْ حفظتُهُ لَكَ مِنِّي
فاسْمَعْ عِتابي صريحاً   فإنني لستُ أَكْنِي
وإنْ كَنيتُ فإني   بالقولِ إياكَ أعْنِي
ماذا دَعَاكَ إلى أن   قلبتَ ظَهْرَ المِجَنِّ
فصرْتَ تَهْدِمُ ما   كنتُ منْ إخَائِكَ أبْنِي
[إلى أن قال]:
وصرتَ تُبدي وَقَاراً   وسَطْوَةً أيْ بأنِّي
قَاضيكُمُ فاعرفوني   وعظِّمُوني لأنِّي
ثم قال كلاماً آخر ختمه بقوله:
أوجعتَ قلبي فقل لي   أوجعتُ قلبكَ أم لا؟
يريد بذلك: تنبيهه على عظيم ما رماه به من القول المُوجع، والأذى المفرط. والله سبحانه وتعالى أعلم.