الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } * { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

قوله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بدل من قوله:وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ } [الأنفال: 7]. ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله:لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ } [الأنفال: 8].

والمعنى: إذ تجأرون إلى الله طالبين منه النصر والغوث على عدوكم لقلة عَدَدِكُم وعُدَدِكُم.

صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيُّ الله القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبدُ في الأرض، فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجزُ لك ما وعدك. فأنزل الله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } فأمده الله تعالى بالملائكة ".

قوله: " وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر " قول يخالف أكثر ما عليه أهل العلم على اختلافهم في العدد.

قال ابن إسحاق: كانوا ثلثمائة وأربعة عشر.

وقال أبو معشر والواقدي: ثلثمائة وثلاثة عشر.

وقال موسى بن قتيبة: ثلثمائة وستة عشر.

وقوله عليه السلام: " أنجز لي ما وعدتني " قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: لم يكن حَدَّ له وقتاً معيناً في النصر، فسأل تعجيل ما وعد به.

والذي يظهر لي أنه صلى الله عليه وسلم استنجز ما وُعد به من النصر في قوله:وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [الأنفال: 7] مقروناً بسلامة أصحابه الذين وعوا عنه ما جاء به، وقاموا بنصر دينه، وترشَّحوا للنيابة عنه في دعائه الخلق إلى الله، ألا تراه يقول: " إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض " أي: لا تُطاع حق طاعتك؛ لأن العبادة تستلزم العلم، وهؤلاء حملة العلم ودعاة عبادك إليك، فيذهب دينك أو يقل بذهابهم.

وفي إلحاحه أيضاً في الدعاء حكمة بالغة، وهو تقوية قلوب أصحابه؛ لعلمهم واعتقادهم أن الله تعالى لا يرد سؤال رسوله لكرامته عليه.

وقول أبي بكر وفعله لم يكن لأن حاله في الثقة بالله أقوى من حال المؤيد بالوحي والعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَلاَّ ولما، لا يجوز أن يتوهم ذلك متوهّم أو يظنّه ظانّ، وإنما كان الصدّيق واسطة عقد الصحابة سناً وقدراً وحلماً وسناء وفضلاً وعلماً، وكان أقدَمهم سبقاً وأعظمهم حقاً، فبادر بإيمانه الراجح، وعلمه الواضح، وثقته بصدق ما وُعدوا به من الظَّفَر وبإجابة الله دعاء رسوله إلى تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما يوجب إراحة قلبه الكريم، وإراحة أفكاره المؤملة التي أوجبها فرط شفقته على أمته، وما ينطوي عليه من الحرص على إعلاء كلمة الإيمان، وإعدام عبدة الأوثان، وتسكين قلوب أصحابه في ذلك الوقت الذي هو مظنة تقلقل القلوب وتزلزل [الأقدام]، فرضي الله عن أبي بكر ما كان أكثر توفيقه وأعظم تحقيقه وتصديقه وأكرم طباعه وأطول في الفضائل باعه.

السابقالتالي
2