الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } * { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ }

{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } أي: الأشراف الذين تعظموا وانتفوا من متابعته، { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي: لا نقرّكم على المخالفة ولا بد من أحد الأمرين؛ إما إخراجكم من القرية، أو عودكم إلى الملة.

فإن قيل: كيف خاطبوا شعيباً بالعود إلى ملّتهم، وكيف أجابهم بقوله: { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } ولم يكن شعيب في ملتهم قط؟

قلت: عنه أجوبة:

أحدها: أن العود هاهنا بمعنى الصيرورة، تقول: عاد عَلَيَّ من فلان مكروه، وإن لم يكن له بذلك سابقة، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:
هذي الكرامُ لا قَعْبَانَ من لبنٍ   شِيَبا بماءٍ فَعَادَا بعدُ أبْوَالا
وقول الآخر:
فإن تكن الأيامُ أحْسَنَّ مَرَّةً   إليَّ فقد عادتْ إليَّ ذنوب
الثاني: أن العود على ظاهره، والمشار إليهم بالعَوْد: الذين آمنوا معه، لكنه أجري معهم في الخطاب ونظم نفسه في جملتهم في الجواب؛ إجراء للكلام على التغليب.

الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام كان قبل أن يختصه الله بالنبوة ويشرفه بالرسالة، داخل في غمار قومه، مخالطاً لهم، وإن كان مبايناً لهم في الشرك والكبائر وما يوجب التنفير من الرذائل والصغائر مما لا يجوز على من أهَّلَه الله لمنصب النبوة والرسالة، فخاطبوه وأجابهم على نحو ما كانوا يعتقدون، كما كانت كفار قريش تقول للنبي، إذا عاتبتهُ: تركت دين آبائك ورغبتَ عن ملتهم، وأمثال ذلك من الألفاظ الموهمة ما لا يجوز وقوع مثله من الأنبياء.

قوله تعالى: { قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } معناه: أو تجبروننا على ملتكم وإن أكرهنا ذلك. { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } كلام مستأنف يتضمن معنى التعجب، تقديره: ما أكذبنا على الله إن عدنا في ملتكم، أو هو قسم بتقدير حذف اللام. المعنى: والله لقد افْتَرَيْنا.

{ وَمَا يَكُونُ لَنَآ } أي: ما ينبغي ولا يصلح لنا { أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } أي: إلا أن يريد ربنا إهلاكنا، ويكون ذلك في سابق علمه.

قال الزجاج: اختلف الناس في تأويل هذه الآية، وأولى التأويلات باللفظ أن يكون: ما يكون لنا أن نعود فيها إلا بمشيئة الله؛ لأنه ما يكون غير ما يشاء الله، وهذا مذهب أهل السُّنَّة. قال الله تعالى:وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الإنسان: 30] والمشيئة في اللغة بيّنة لا تحتاج إلى تأويل.

والمعنى: ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون الله تعالى قد سبق في علمه ومشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً }. ثم قال: { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } ، وفي موضع آخر:وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [هود: 88].

وقال قوم: { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } أي: فالله لا يشاء الكفر، قالوا: وهذا مثل قولك: لا أكلِّمك حتى يَبْيَضَّ القار، ويَشِيب الغراب، والقار لا يَبْيضّ، والغراب لا يشيب.

السابقالتالي
2