الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله: { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي: ليأنس بها لما بينهما من [حسية] الإنسية ومشاكلة البعضية.

{ فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } كناية عن الجماع، { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } يعني: النطفة، وقيل: خفيفاً لم تلق منه ثقلاً ولا مشقّة، كما يجد بعض [الحوامل].

قوله: { فَمَرَّتْ بِهِ } تحقيق لمعنى خِفَّتِه، وأنه لم يمنعها من القيام والقعود والنزول والصعود. وقرأ سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود وابن عباس: " فاستمرّت به ".

وقرأ أبي بن كعب والجوني: " فاستمارّت به " بزيادة ألف مع تشديد الراء في الجميع، والمعنى واحد وهو ما ذكرناه.

وقال قتادة: المعنى: تبيّن حملها.

وقرأ أبو العالية ويحيى بن يعمر: " فَمَرَتْ به " خفيفة الراء، أي: شكّت وتمارت هل حملت أم لا؟

قال الزجاج: الحَمْل -بفتح الحاء-: ما كان في بطن، أو أخرجته شجرة، والحِمْل -بكسر الحاء-: ما يُحْمَل.

{ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ } صارت ذات ثقل، { دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا } أي: دعى آدم وحواء ربهما، { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } بشراً سوياً، فإنهما خافا أن تلد ولداً لا يشاكلهما ويجانسهما. هذا قول الأكثرين.

وقال الحسن وقتادة: المعنى: لئن آتيتنا غلاماً صالحاً، { لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } لك على نعمك.

{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً } أي: أعطاهما ما سألاه، { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: " شِرْكاً " بكسر الشين وسكون الراء والقصر، على المصدر، أي: جعلا لله ذا شرك. والمراد به على القراءتين: إبليس، وأوقع الجمع على القراءة المشهورة موقع الواحد.

ومعنى جعلهما إبليس شريكاً لله: طاعتهما له، وكان السبب في ذلك: ما أخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب أن النبي قال: " لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سَمِّيه عبد الحارث فسَمَّته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ".

ونقل العلماء بالتفسير: أن إبليس جاء إلى حواء في غير الصورة التي كانت تعرفه فيها، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. فقال لها: إني أخاف أن يكون كلباً أو خنزيراً أو بهيمة، وما يدريك من أين يخرج؟ أيشق بطنك؟ أو يخرج من فِيكِ؟ أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك وذكرته لآدم، فدعوا الله حينئذ وهما مع ذلك في همّ وغمّ وخوف، فأتاها إبليس فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت الله أن يسهل خروجه وأن يجعله إنساناً مثلك ومثل آدم، أتسميه عبد الحارث؟ -وكان اسم إبليس بين الملائكة: الحارث-قالت: نعم. فلما وضعته صالحاً سمّته برضا آدم عبد الحارث. ولم يريدا عليهما السلام أن الحارث ربه ومالكه، وإنما ظنّا أنه كان السبب في نجاته، فأضافاه إليه إضافة طاعة وخضوع، كقول الشاعر:
وإِنّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ من غير ذلة   وما فيّ إلا ذاك من شيم العبد
وإلى هذا أشار قتادة بقوله: جعلا له شركاً في الاسم لا في العبادة، وهاهنا تم الكلام.

ثم نزّه نفسه عما يقوله الكافرون، فقال جل وعز: { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.

وقيل: التقدير: فلما آتاهما صالحاً جعل أولادُهما له شركاء، على حذف المضاف، وكذلك { فِيمَآ آتَاهُمَا } ، ودلّ على هذا التأويل قوله: { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.