الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }

قوله تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمْ } أي: مزّقناهم وفرقناهم، { فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } قال ابن عباس: ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة، { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ } كالذين آمنوا بعيسى ومحمد والذين وراء الصين، { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } وهم الكفرة والفسقة.

و " دون ذلك " في محل الرفع صفة لموصوف محذوف، تقديره: ومنهم قوم منحطون عن الصلاح.

{ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ } كالعافية والخصب ترغيباً، { وَٱلسَّيِّئَاتِ } كالمرض [والجدب] ترهيباً، { لَعَلَّهُمْ } يتوبون إلى ربهم ويثوبون عن ذنبهم.

قوله تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي: من المذكورين الموصوفين، { خَلْفٌ } وقرأ الجوني والجحدري: " خَلَف " بفتح اللام.

قال أبو عبيدة: هما واحد.

وقوم يجعلون الخَلَف -بالتحريك-: الصالح، وبالتسكين: الطالح.

قال ابن الأنباري: وهو الأكثر في الاستعمال، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر. والمراد بالخَلْف هاهنا: الرديء. ومنه المثل السائر: " سَكَتَ أَلْفاً ونَطَقَ خَلْفاً ".

وقول لبيد:
ذهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أَكْنَافِهِمْ   وَبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
والمراد بهم: اليهود [الموجودون] في زمن النبي.

{ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } التوراة، انتقلت إلى خلفهم من سلفهم كما ينتقل الميراث.

والخَلْف: إما جمع خالف؛ كراكب ورَكْب، وشارب وشَرْب، وإما مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، فلذلك قال: { خَلْفٌ }.

{ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } أي: ما عرض لهم من حطام الدنيا؛ كالرشوة في الحكم وأمثالها، وسمّاه عَرَضاً؛ لقلة بقائه، وسمّاه أدنى؛ لدناءته وخساسته بالنسبة إلى عالم الآخرة ونفاسته، أو لدنوّه وقربه.

{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي: لا نؤاخذ بما أخذنا. وفاعل " سيغفر " هو الجار والمجرور وهو " لنا " ، أو مصدر " يأخذون " ، أي: سيغفر الأخذ لنا.

{ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال، أي: يوجبون المغفرة على الله وهم مصرّون على الذنب، { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ } وهو التوراة، { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } عطف بيان لـ " ميثاق الكتاب " ، والاستفهام تقرير وإنكار. والمعنى: قد أخذ عليهم الميثاق بقول الحق، فما بالهم يقولون الباطل ويتمنون على الله الأماني.

ثم أخبرهم عنهم أنهم خالفوه على علم فقال: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } المعنى: فلم فعلوا ما ينافيه، وهو عطف على " ألم يؤخذ "؛ لأنه في معنى: أخذ [عليهم] كما ذكرناه، { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الشرك والمعاصي، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }. قرئ بالياء والتاء، وقد ذكرناه في الأنعام. والمعنى: أفلا تعقلون تفاوت ما بين الدارين فتؤثرون النفيس الباقي على الخسيس الفاني.

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ } في موضع جرّ عطفاً " على الذين يتقون " ، أو في موضع رفع بالابتداء، وخبره: " إنا لا نضيع ".

وقرأ أبو بكر عن عاصم: " يُمْسِكُون " بالتخفيف، من أمسك.

وقرأه أُبيّ: " والذين تَمَسَّكوا " بالتشديد، وصيغة الماضي تقوّي قراءة الباقين.

قال المفسرون: نزلت في مؤمني أهل الكتاب؛ كابن سلام. ومعنى تمسّكهم به: عملهم بما فيه.

ثم خَصَّ الصلاة بالذكر مع دخولها في عموم التمسك بالكتاب؛ إظهاراً [لمنزلتها] وعظم شأنها، ولأنها عماد الإسلام، والفارقة بين الكفر والإيمان، فقال: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلٰوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }.