قوله تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمْ } أي: مزّقناهم وفرقناهم، { فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } قال ابن عباس: ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة، { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ } كالذين آمنوا بعيسى ومحمد والذين وراء الصين، { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } وهم الكفرة والفسقة. و " دون ذلك " في محل الرفع صفة لموصوف محذوف، تقديره: ومنهم قوم منحطون عن الصلاح. { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ } كالعافية والخصب ترغيباً، { وَٱلسَّيِّئَاتِ } كالمرض [والجدب] ترهيباً، { لَعَلَّهُمْ } يتوبون إلى ربهم ويثوبون عن ذنبهم. قوله تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي: من المذكورين الموصوفين، { خَلْفٌ } وقرأ الجوني والجحدري: " خَلَف " بفتح اللام. قال أبو عبيدة: هما واحد. وقوم يجعلون الخَلَف -بالتحريك-: الصالح، وبالتسكين: الطالح. قال ابن الأنباري: وهو الأكثر في الاستعمال، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر. والمراد بالخَلْف هاهنا: الرديء. ومنه المثل السائر: " سَكَتَ أَلْفاً ونَطَقَ خَلْفاً ". وقول لبيد:
ذهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أَكْنَافِهِمْ
وَبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
والمراد بهم: اليهود [الموجودون] في زمن النبي. { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } التوراة، انتقلت إلى خلفهم من سلفهم كما ينتقل الميراث. والخَلْف: إما جمع خالف؛ كراكب ورَكْب، وشارب وشَرْب، وإما مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، فلذلك قال: { خَلْفٌ }. { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } أي: ما عرض لهم من حطام الدنيا؛ كالرشوة في الحكم وأمثالها، وسمّاه عَرَضاً؛ لقلة بقائه، وسمّاه أدنى؛ لدناءته وخساسته بالنسبة إلى عالم الآخرة ونفاسته، أو لدنوّه وقربه. { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي: لا نؤاخذ بما أخذنا. وفاعل " سيغفر " هو الجار والمجرور وهو " لنا " ، أو مصدر " يأخذون " ، أي: سيغفر الأخذ لنا. { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال، أي: يوجبون المغفرة على الله وهم مصرّون على الذنب، { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ } وهو التوراة، { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } عطف بيان لـ " ميثاق الكتاب " ، والاستفهام تقرير وإنكار. والمعنى: قد أخذ عليهم الميثاق بقول الحق، فما بالهم يقولون الباطل ويتمنون على الله الأماني. ثم أخبرهم عنهم أنهم خالفوه على علم فقال: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } المعنى: فلم فعلوا ما ينافيه، وهو عطف على " ألم يؤخذ "؛ لأنه في معنى: أخذ [عليهم] كما ذكرناه، { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الشرك والمعاصي، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }. قرئ بالياء والتاء، وقد ذكرناه في الأنعام. والمعنى: أفلا تعقلون تفاوت ما بين الدارين فتؤثرون النفيس الباقي على الخسيس الفاني. قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ } في موضع جرّ عطفاً " على الذين يتقون " ، أو في موضع رفع بالابتداء، وخبره: " إنا لا نضيع ". وقرأ أبو بكر عن عاصم: " يُمْسِكُون " بالتخفيف، من أمسك. وقرأه أُبيّ: " والذين تَمَسَّكوا " بالتشديد، وصيغة الماضي تقوّي قراءة الباقين. قال المفسرون: نزلت في مؤمني أهل الكتاب؛ كابن سلام. ومعنى تمسّكهم به: عملهم بما فيه. ثم خَصَّ الصلاة بالذكر مع دخولها في عموم التمسك بالكتاب؛ إظهاراً [لمنزلتها] وعظم شأنها، ولأنها عماد الإسلام، والفارقة بين الكفر والإيمان، فقال: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلٰوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }.