الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } أي: للوقت الذي حددنا له، واللام للاختصاص، كأنه قيل: واختصّ مجيئه بميقاتنا.

{ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أسمعه كلامه من غير واسطة، وإلا فأي مزية كانت له بوصف التكليم.

قال المفسرون: لما أراد الله أن يكلمه أهبطه إلى الأرض ظلمة سبع فراسخ، فلما دنا موسى من الظلمة تنحى عنه ملكان، وطرد عنه شيطانه، وطرد هوام الأرض، ثم كلّمه الله وأدناه، فرأى الملائكة قياماً في الهواء، ورأى العرش بارزاً، وسمع صريف الأقلام، وتغشّاه نورٌ لم يزل على وجهه إلى أن مات، وكان لا يزال متبرقعاً، وكان لا يستطيع أحد أن ينظر إلى وجهه لما غشيه من النور، فقالت له زوجته: أنا أَيِّم منك مذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخَرَّت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله: " إن الله عز وجل ناجى موسى بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام كلها وصايا، فكان فيما ناجاه أن قال له: يا موسى! لم يتصنَّع المتصنِّعون بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرَّب المتقرِّبون بمثل الورع عمّا حرّمت عليهم، ولم يتعبّد المتعبّدون بمثل البكاء من خيفتي. قال موسى: يا إله البرية كلها، ماذا أعددت لهم؟ قال: أما الزاهدون في الدنيا فأُبيحهم جنتي يتبوؤا فيها حيث شاؤوا، وأما الورعون عما حرّمت عليهم فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشتُه الحساب، إلا الورعين فإني أجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب. وأما البكَّاؤون من خيفتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يُشارَكون فيه ".

قال المفسرون: طمع موسى حينئذ في الرؤية فقال: { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ }. مفعول " أرني " الثاني محذوف. قال الزجاج: تقديره: أرني نفسك أنظر إليك.

والمعنى: مَكِّنِّي من الرؤية بتَجَلِّيكَ لي.

وفي هذا دليلٌ واضحٌ على أن رؤية الله تعالى غير مستحيلة؛ لأنها لو كانت مستحيلة لما سألها موسى، ولأنكر الله عليه سؤالها. وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم ورفضهم صريح الكتاب وصحيح الأحاديث وتكذيبهم بما تتقاصر عقولهم السخيفة عن إدراكه حتى نسبوا موسى عليه السلام في سؤاله الرؤية لله إلى أحد أمرين؛ إما جهله بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وأعظم بها فرية منهم. وإما إقدامه واجتراؤه على السؤال مع علمه بعدم الجواز على ظنهم الفاسد، فيالها جرأة على كليم الله وصفيّه. وزعم بعض غلاتهم أنه إنما سأل الرؤية لتبكيت السبعين الذين قالوا:أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] حتى يشاهد، ولما عساه يحدث به فيعتبروا أو يسمعوا كلام الله لموسى بالنهي أو بالنفي فينزجروا، فما أحقهم وأولاهم بإنشاد ما قيل:

وجواب مثلك أن يعامل بالسكوت عن الجواب

فإنهم جعلوا موسى مرشداً لأولئك بإضلال نفسه، ومصلحاً لهم بإفساد دينه، اللهم فاجعل إيماننا بما أوجبته مشفوعاً بتحقيق الرجاء، وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم إذا حجبته عن أهل الاعتزال والإرْجاء.

السابقالتالي
2 3 4