قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: " خلقناكم " في الأصلاب، " ثم صورناكم " في الأرحام. وقال في رواية أخرى: " خلقناكم " في ظهر آدم، " ثم صورناكم " في الأرحام. وقال في رواية العوفي: " ولقد خلقناكم " يعني: آدم، " ثم صورناكم " يعني: ذريته من بعده. وقال معمر: خلقناكم في بطون أمهاتكم، ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر. وقال مجاهد: " خلقناكم " يعني: آدم، " ثم صورناكم " في ظهره. وقيل: " خلقناكم " يعني: الأرواح، " ثم صورناكم " يعني: الأجساد. حكاه القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد. وقال الزجاج: زعم الأخفش أن " ثم " هاهنا في معنى الواو، وهذا خطأ لا يجيزه الخليل ولا سيبويه وجميع من يوثق بعلمه، إنما " ثم " للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولاً، فإنما المعنى: بدأنا خلق آدم عليه السلام ثم صورناه، فابتداء خلق آدم التراب، الدليل على ذلك قوله:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59]، فبدأ الله خلق آدم تراباً، وبدأ خلق حواء من [ضلع] من أضلاعه، ثم وقعت الصورة بعد ذلك، فهذا معنى: { خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } ، أي: هذا أصل خلقكم، ثم خلق ولده نطفاً ثم صُوِّرُوا. وهاهنا تمّ كلام الزجاج. فإن قيل: فما تصنع بقوله: { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } على الأقوال المروية عن ابن عباس وقول معمر؟ قلت: إما أن يقال بأن فيه تقديماً وتأخيراً، وإما أن يكون التقدير: ثم كنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. { فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } لآدم تعظماً وتكبراً عليه وحسداً له. { قَالَ مَا مَنَعَكَ } " ما " رفع بالابتداء وما بعده الخبر، و " أن " في موضع نصب بـ " منعك " ، تقديره: أي شيء منعك السجود لآدم، وإنما سأله -وهو أعلم بحاله منه-؛ توبيخاً له وإظهاراً لعناده وكفره وتعظمه في نفسه وكبره. و " لا " في قوله: { أَلاَّ تَسْجُدَ } صلة، بدليل قوله في موضع آخر:{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75] ومثلها:{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد: 29] بمعنى: لِيَعْلَمَ. وفائدة زيادتها: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ما منعك أن تلزم نفسك السجود وتحققه لآدم. وكذا لـ " يعلم " ، أي: يتحقق علم أهل الكتاب. { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } كأنه قال: منعني فضلي عليه. ثم ذكر ما ظنه موجباً لفضله عليه فقال: { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }.