قوله تعالى: { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } قرأ حفص: { يحشرهم } بالياء، حملاً على لفظ الغيبة في قوله:{ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ } [الأنعام: 127]. وقرأ الباقون بالنون، على الإخبار من الله تعالى عن نفسه. والمعنى: اذكر يوم نحشر الثقلين الإنس والجنّ جميعاً في موقف القيامة. و " جميعاً " حالٌ من المفعول. { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ } فيه إضمارٌ تقديره: فيُقال لهم: يا معشر الجنِّ. والمعْشَرُ: الجماعة أمرهم واحد، والجمع: مَعَاشِر. والمراد بشياطين الجنّ: مَرَدَتُهم. { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } أي: من إغوائهم واستهوائهم، حتى صاروا لكم أشياعاً وأتباعاً. { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ } أي: وقال أولياء الجن الذين أطاعوهم من الإنس: { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } ، أي: انتفع بعضنا ببعض، واستمتاع الإنس بالجن ما حصل لهم من الشهوات بواسطة تسويلهم وتسهيلهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما زيّنوه لهم من الكفر والمعاصي. فإن قيل: أي غرض لهم ونفع في كفر الإنس ومعصيتهم؟ قلت: هم قوم طبعوا على الشّر، فهم يرتاحون إلى اجتذاب الإنس إليه وإن لم يكن لهم فيه نفع، كما قيل:
من الناسِ من يرتاحُ للشرِّ طبعُه
وإن لم يكن فيه غِنىً وغِنَاء
كما يشرف الياقُوت والدُّرّ عقعق
وليسَ له في ذا وذاكَ غِذاء
وقيل: استمتاع الإنس ما في قوله:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ } [الجن: 6]، وكان الرجل إذا نزل وادياً أو أراد مبيتاً قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله. واستمتاعُ الجن: فخرُهم بذلك على قومهم حيث اعترف لهم الجن والإنس بالسيادة. وهذان القولان مرويان عن ابن عباس. وقيل: استمتاع الجن: إغواؤهم الإنس، واستمتاع الإنس: ما يتلقونه منهم من السحر والكهانة. { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } وهو أجل البعث بعد الموت، وهذا الاعتراف خارج مخرج الاعتذار والندم والاستسلام لما يُراد بهم يوم القيامة. { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ } قال ابن عباس: يريد: فيها مقامكم. { خَٰلِدِينَ فِيهَآ } منصوب على الحال. { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } وهو قدر ما بين بعثهم إلى دخولهم النار، كأنه قيل: داخلين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم وحسابهم، وهذا اختيار الزجَّاج. وقال ابن عباس: استثنى الله قوماً قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي. و " ما " على هذا القول بمعنى: " مَن " ، ويكون الاستثناء من المضاف إليه في قوله: { مَثْوَٰكُمْ }. وقيل: " إلا ما شاء الله " من أنواع العذاب، فقد روي أنهم يعذبون بالزمهرير، فينقادون ويطلبون الرد إلى الجحيم.