قوله تعالى: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } أي: جاءت غمرته وشدته التي تغشى الإنسان فتذهب بعقله، بالحق الثابت من أمر الآخرة، فأبانت له ما كان يجهله من ذلك. وقيل: جاءت بحقيقة الموت. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق وابن عباس والحسن: " سَكْرَةُ الحقِّ بالموت ". قال محمد بن جرير الطبري: لهذه القراءة وجهان: أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الله بالموت. والثاني: أن السكرة هي الموت أضيفت إلى نفسها، كقوله تعالى:{ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [الواقعة: 95]، فيكون المعنى: وجاءت السكرة الحق [بالموت]. ويروى: أن عائشة رضي الله عنها أنشدت عند أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين احتُضر:
لعمرُكَ ما يُغني الثَّرَاءُ عن الفتى
[إذا] حَشْرَجَتْ يوماً وضَاقَ بها الصدر
فقال لها أبو بكر: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله: " وجاءت سكرة الحق بالموت ". وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: " وجاءت سكرات " على الجمع، وتقديم " الحق " ، ومثلهما قرأ أبي بن كعب وسعيد بن جبير: " سكرات ". قوله تعالى: { ذَلِكَ } أي: فيقال للإنسان ذلك { مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }. قال ابن عباس: تكره. وقال الضحاك: تَرُوغ. وقال الحسن: تهرب. وأصل الحَيْد: المَيْل، يقال: حَادَ يَحيدُ حَيْداً، وأنشدوا قول طرفة:
أبا مُنذرٍ رُمْتَ الوفاءَ فهبتَهُ
وحِدتَ كما حَادَ البعيرُ عن الدَّحْضِ
قوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } مذكورٌ في الأنعام. والمراد: نفخة البعث. { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } قال مقاتل: يعني بالوعيد: عذاب الآخرة. والمعنى: ذلك يوم وقوع الوعيد. ويجوز أن يكون الموعود، فصُرف وأضيف. قوله تعالى: { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أي: وجاءت ذلك اليوم كل نفس معها، ولغة بني تميم " مَعْها " بإسكان العين، سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد لها وعليها، وهما من الملائكة في قول جمهور المفسرين. قال ابن السائب: السائق الذي كان يكتب عليه السيئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات. وقيل: السائق: القرين من الشياطين، والشهيد: العمل. وقيل: الجوارح. والآية عامة في قول عامة المفسرين. وقال الضحاك: خاصة في الكفار. { لَّقَدْ كُنتَ } على إضمار القول، تقديره: فيقال: لقد كنت أيها الإنسان. وقيل: الخطاب: للكافر. وهو قول ابن عباس. والمعنى: لقد كنت في دار الدنيا. { فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } الذي صرت إليه، { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } وهي الأكِنَّة الصادّة له عن النظر، { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي: حادٌّ ثاقب. قال مجاهد: وذلك حين ينظر إلى لسان الميزان حين توزن حسناته وسيئاته. وقال [مقاتل]: حديدٌ شاخصٌ لا يَطْرُف. وقال الزجاج: علمُك اليوم نافذ، لم يرد به حقيقة البصر. [وقال] ابن زيد: هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، على معنى: لقد كنت في غفلة عن الرسالة والوحي، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي، فبصرك اليوم، أي: عملك في الدنيا حديد. والقول الأول أظهر وأشهر. وتؤيده قراءة الجحدري: " لقد كنتِ " بكسر التاء، " عنكِ غطاءكِ فبصركِ " بكسر الكاف فيهنّ، على المخاطبة للنفس.