قوله تعالى: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي: شكٌّ ونفاق { أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } أي: أن لن يبرز الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أحقادهم الكامنة في صدورهم. { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ } قال الزجاج: لعرَّفناكَهُم. تقول: قد أريتَكَ هذا الأمر، أي: قد عرفتك إياه. المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما. { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أي: بتلك العلامة { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ }. قال الكلبي: في كذب القول. قال المفسرون: المعنى: ولتعرفنهم في مقصد كلامهم وفحواه، فإنهم يتعرضون [بتهجين] أمرك والاستهزاء بدينك. وقال بعضهم: اللَّحْن: أن تلحن بكلامك، أي: [تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له] صاحبك، وذلك من أثر القدرة على التصرف في الكلام، والأخذ في أساليبه، وأنشدوا:
لقد لحنت لكم لكيما تفهموا واللحن يعرفه ذوو الألباب
وقال آخر:
وحديثٌ ألذه هو [مما]
تشتهيه النفوس [يُوزن] وزنا
منطِقٌ [صائب] وتلحن أحيا
ناً وخير الحديث ما كان لحنا
[أي]: تارة تأتي بالكلام على وجهه صائباً مسدوداً، وأخرى تحرّف فيه وتلحن، أي: تعدل على الجهة الواضحة متعمدة لذلك تلعباً بالقول، ومنه الحديث: " لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته " ، أي: أنهض بها وأحسن تصرفاً فيها. وبهذا التقدير يجوز أن يكون المراد: ولتعرفنهم في لحن القول الصادر ما ينبهه على أنه يوحى إليه في فحوى الكلام ما يستدل به عليهم. والأول هو المعروف في التفسير. قال الزجاج: دلّ بهذا -والله أعلم- أن قول القائل وفعله قد يدل على نيته. قال ابن جرير: ثم بعد عرفه الله إياهم. قال الزمخشري: إن قلت: أي فرق بين اللامين في " فلعرفتهم " و " لتعرفنهم "؟ قلتُ: الأولى هي داخلة في جواب " لو " كالتي في " لأريناكهم " كررت في المعطوف، وأما اللام في " ولتعرفنهم " فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف. قوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } أي: ولنعاملنكم معاملة المبتلي، أي: المختبر، حتى نعلم علماً يتعلق به الجزاء [للمجاهدين] منكم في سبيله، والصابرين على مشاق تكاليفنا. { وَنَبْلُوَاْ } وقرأ يعقوب: " ونبلُوا " بسكون الواو، على معنى: ونحن نبلوا. { أَخْبَارَكُمْ } أي: نختبركم بالتكليف اختباراً يكشف للمؤمنين أحوالكم وضمائركم. وقرأ أبو بكر عن عاصم: " وليبلونكم حتى يعلم " ، " ويبلوا " بالياء فيهن. سمعت شيخنا أبا محمد عبدالله بن أحمد بن محمد رضي الله عنه يقول: قال إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت فضيلاً -يعني: ابن عياض- بليلة وهو يقرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم ويبكي ويردد هذه الآية: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ، وجعل يقول: وتبلوا أخبارنا، إن بلوتَ أخبارنا فضحتنا، وهتكت أستارنا، إن بلوتَ أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا. وسمعته يقول: تزينتَ للناس وتصنعتَ لهم وتهيأتَ لهم، ولم تزل ترائي حتى عرفوك، فقالوا: رجل صالح، فقضوا لك الحوائج، [ووسعوا] لك في المجلس، وعظموك خيبة لك، ما أسوأ حالك إن كان هذا شأنك. وسمعته يقول: إن قدرتَ أن لا تُعرف فافعل، وما عليك أن [لا] تعرف، وما عليك إن لم يُثْنَ عليك، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً.