الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } * { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ } وقرأ حمزة والكسائي: " كَبِيرَ الإثم " ، أي: عظيمه. والمراد: الجمع.

وقد ذكرنا الكبائر في سورة النساء عند قوله تعالى:إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [النساء: 31]، وهو معطوف على قوله تعالى: { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وكذلك ما بعده.

{ وَٱلْفَوَاحِشَ } الذنوب المفرطة في القبح، { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي: هم الأجدرون بأن يغفروا حالة الغضب ويكظموا على ما في أنفسهم، رغبة في الثواب ورهبة من العقاب.

وقد ذكرنا في سورة آل عمران وأواخر الأعراف طرفاً من الأخبار والآثار الواردة في فضل الكظم والعفو والتجاوز عند الغضب.

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } أجابوه فيما دعاهم إليه، { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } مُفسّر في أول سورة البقرة.

{ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي: لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه. فأثنى الله تعالى عليهم بذلك.

قال الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمرهم.

وقد أشرنا إلى فضيلة المشاورة في سورة آل عمران عند قوله تعالى:وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } [آل عمران: 159].

والشورى مصدر بمعنى التشاور.

ومعنى قوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي: ذو شورى.

قال علي عليه السلام: اجتمع لأبي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الله [والخير]، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون، فأنزل الله تعالى: { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } إلى قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }. خص به أبا بكر وعمَّ به من اتبعه.

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } قال ابن جريج: إذا بغى المشركون عليهم انتصروا بالسيف منهم.

وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين بمكة، فرقة منهم كانت تؤذى فتعفو عن المشركين، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر، فأثنى الله تعالى عليهم جميعاً، فقال في الذين لم ينتصروا: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } وقال في المنتصرين: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }.

وقال في رواية أخرى عنه: ذكر الله تعالى المهاجرين وكانوا صنفين، صنفاً عفى، وصنفاً انتصر فقال: { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } فبدأ بهم، وقال [في المنتصرين: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } وقال]: { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } إلى قوله: { يُنفِقُونَ } وهم الأنصار، ثم ذكر الصنف الثالث فقال: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } من المشركين.

وقيل: إنها عامة في جميع الناس.

قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفوا.

فإن قيل: هل يحمدون على الانتصار؟

قلتُ: نعم إذا لم يكن المنتصر متعدياً فيه؛ لأنه إذا تجرأ في الانتصار فَجَانَبَ ما لا يسيغه الشارع له، وفَعَلَ ما يبيحه له كان مطيعاً لله تعالى، ألا ترى أن مجتنب المعاصي ممدوح محمود في الآية السالفة، وهي قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ }.

فإن قيل: فكيف يجمع بين هذه الآية الدالة على كونهم محمودين وبين الآيات المشتملة على فضيلة العفو؟

قلتُ: لا تناقض بين الحالتين، فإن المنتصر على الوجه المشروع محمود على الوجه الذي ذكرناه، والعافي له رتبة الفضيلة، حيث أغضى عن حقه وكظم على ما في نفسه ابتغاء وجه الله تعالى، وصار هذا بمنزلة من استحق دَمَ إنسان قصاصاً، فإنه إن طالب القصاص على الوجه المشروع أو الدية على الوجه المقدر في الشرع كان محسناً باعتبار اقتفائه أثر الشرع، وإن عفى كان أجمل وأفضل.