قوله: { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }. أخبرنا الشيخان أبو القاسم، وأبو الحسن البغداديان، قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا الداودي، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الفربري، حدثنا البخاري، حدثني محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر وعبد الرحمن، قالا: حدثنا شعبة، عن عدي، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت: " { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } رجع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أُحُد، وكان الناس فيهم فرقتين، فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت: { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } ، وقال: إنها طيبة تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة ". وأخرجه مسلم أيضاً. وقال عبد الرحمن بن عوف: نزلت في قوم أسلموا فأصابهم وباء المدينة وحماها، فخرجوا، فاستقبلهم نفر من المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فَاجْتَوَيْنَاهَا، فقالوا: أما لكم في رسول الله أُسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في العُرَنيين الذين أغاروا على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في الذين لم يهاجروا من مكة. والمعنى: ما لكم اختلفتم في شأن قوم ظهر نفاقهم، وتفرقتم فيهم فئتين -أي: فرقتين، ونصبها على الحال -، وما لكم لم تجتمعوا على كفرهم. { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ } رَدَّهُم إلى الشرك كما كانوا، يقال: أَرْكَسَ الشَّيْء ورَكَسَهُ، { بِمَا كَسَبُوۤاْ } من الفعل القبيح الدال على كفرهم ونفاقهم. { أَتُرِيدُونَ } أيها المؤمنون، { أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } لأنهم قالوا: هم إخواننا، وتكلموا بكلمتنا، فأنكر الله عليهم نسبة المنافقين إليهم. { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } إلى الحُجَّة، ولا دليلاً على المحجة. ثم أخبر الله المؤمنين بما تنطوي عليه ضمائرهم لهم، لئلا يحسنوا الظن بهم، فقال: { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ } عطف على " تكفرون " ، إذ لو كان جواباً لحذفت النون، والمعنى: أحبوا كفركم وكونكم مثلهم. { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: يرجعوا إلى رسول الله بنِيَّةٍ خالصة من شوائب النفاق. { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ } عن التوحيد والهجرة، { فَخُذُوهُمْ } أُسَراء، { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في حِلٍّ أو حرم، { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }. قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ } استثناهم الله عز وجل من قوله: { فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ } التقدير: خذوهم واقتلوهم إلا الذين يتصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيكون بينهم رابطة حِلْف أو جوار، فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم. قال ابن عباس: والمراد بالقوم: هلال بن عويمر الأسلمي وقومه، وكان وَادَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن [لا] يعينه، ولا يعين عليه، وكان مَن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال.