الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } * { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }

قوله عز وجل: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ } يَتَأَمَّلُونَهُ ويتفكرون فيه، فيستدلوا برصانة مبانيه عن المناقضة، وصيانة معانيه عن المعارضة، وكثرة حكمه وأحكامه مع إيجازه وإعجازه، وتشويق هواديه إلى أعجازه. على أنه كلام مَن تنزَّهت ذاته عن مشاكلة الذوات، وصفاته عن مماثلة الصفات.

{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ } كما زعم حاسدوك ومعاندوك، { لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } تفاوتاً في النظم والمعنى على نحو كلام البشر ما بين بديع مستحسَن، ومرذول مستهجَن، وكلام الله تعالى جار على سَنَنٍ واحد من البلاغة والبراعة وصحة اللفظ والمعنى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

قوله: { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: أطلَّقتَ نساءك؟ قال: لا، فخرج، فنادى: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق نساءه، فنزلت هذه الآية، فكان عمر هو الذي استنبط الأمر ".

وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سريّة فغَلبت أو غُلِبت، تحدَّثوا بذلك، وأذاعوه قبل النبي صلى الله عليه وسلم وكبراء أصحابه وعلمائهم، فأنزل الله هذه الآية.

والمشار إليهم بقوله: { وَإِذَا جَآءَهُمْ }: المنافقون.

وقيل: ضعفة المسلمين الذين لا اطلاع لهم على بواطن الأمور وجلايا القضايا.

والأمن: الظفر والغنيمة.

والخوف: القتل والهزيمة.

{ أَذَاعُواْ بِهِ } أظهروه وأشاعوه، يقال: أذاع السر وأذاع به، { وَلَوْ رَدُّوهُ } يعني: الأمر { إِلَى ٱلرَّسُولِ } ليكون هو المُخْبر به، { وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ } وهم أصحاب البصائر المضيئة بنور العلم والإيمان.

قال ابن عباس: كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم.

وقيل: هم ذوو الآراء من الأمراء.

{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه من أولي الأمر.

وقال مجاهد: من المذيعين.

فالمعنى على القول الأول: ولو ردوه إلى أرباب العلم، وكبراء الصحابة لاستنبطوه بآرائهم السليمة، وأفهامهم المستقيمة، فعلموا منهم صحة ذلك الأمر من بطلانه، وهل المصلحة في إذاعته، أو في كتمانه.

والمعنى على قول مجاهد: ولو ردُّوه إلى أُولي الأمر منهم، وهم الكبراء أو الأمراء لعلمه المستنبطون من المذيعين.

{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } قال ابن عباس: " فضل الله ": الإسلام، " ورحمته ": القرآن.

{ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ } قال ابن عباس: هاهنا تم الكلام، ثم استثنى القليل من قوله: " أذاعوا به " تقديره: أذاعوا به { إِلاَّ قَلِيلاً } ممن عصم الله منهم فإنهم لا يذيعون. وهذا اختيار الكسائي، والفرَّاء، وابن جرير.

وقال الحسن: الاستثناء من المستنبطين، تقديره: لعلمه الذين يستنبطونه إلا القليل.

وهذا اختيار ابن قتيبة.

وقال الضحاك وغيره: المعنى: لاتبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلاً. اختاره الزجَّاج.

وقال بعض العلماء: المعنى: ولولا فضل الله عليكم بإرسال محمد إليكم لضللتم إلا قليلاً منكم، وهم الذين اهتدوا بنور عقولهم إلى عبادة الرحمن، ورفض الأوثان؛ كقُس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل.