قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ... } الآية قال ابن عباس: نزلت في منافق خاصم يهودياً، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، فقال المنافق: بل ننطلق إلى كعب بن الأشرف - وهو الذي سماه الله: الطاغوت -، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك رافعه إلى رسول الله، فقضى لليهودي، فلما خرجا من عنده، لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه، وقصا القصة عليه، فقال للمنافق: أكذلك هو؟ قال: نعم، فقال عمر: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على سيفه، ثم خرج، فضرب به المنافق، حتى بَرَدَ، فقال: هكذا أقضي لمن لم يَرْضَ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهرب اليهودي. فنزل جبريل بهذه الآية وقال: يا محمد؛ إن عمر فرّق ببن الحق والباطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت الفاروق ". والزّعْم: بضم الزاي وفتحها لغتان، وأكثر ما يُستعمل فيما لا تتحقق صحته. { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ } وهو كعب بن الأشرف، سُمِّي بذلك؛ لإفراطه في الطغيان، وعداوة الإسلام. { وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } قال مقاتل: أُمروا أن يتبرأوا من الكهنة. قوله: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ } أي: كيف يكون حالهم إذا أصابتهم عقوبة من الله. قيل: هي قتل المنافق، { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من النفاق والتحاكم إلى الطاغوت، { ثُمَّ جَآءُوكَ } يعني: أولياء المنافق، وكانوا قد طلبوا القصاص من عمر رضي الله عنه، { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ } بطلب القصاص، { إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً } أي: خيراً وطلباً لما يوافق الحق. وقيل: ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا إحساناً وتوفيقاً بين الخصمين، لا مخالفة حكمك، وعدم الرضا بقضائك، وذلك كذب منهم. ألا تراه يقول: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } يعني: من الكفر والنفاق وإضمارهم خلاف ما يقولون، { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: دع عقوبتهم. ذهب جماعةٌ من المفسِّرين إلى أن الأمرَ بالإعراض منسوخ بآية السيف. وهذا ليس بصحيح؛ لأن آية السيف اقتضت إباحة دم المشركين، وحضَّت على قتلهم، والمنافق معصوم الدم؛ لإظهاره كلمة الحق. { وَعِظْهُمْ } خَوِّفهم أن يعودوا لمثلها، وحذرهم من النفاق. { وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي: قل لهم وبالغ في وعظهم مبالغة تؤثر في نفوسهم وتبلغ كُنْه قلوبهم. قال الحسن البصري رحمه الله: المعنى: قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتِلتم. وقيل: المعنى: قل لهم خالياً بهم، لأن القول في السر أنجع وأدخل في النصيحة. وقد تكلم الفصحاء في البلاغة فأحسنوا: قال الزجَّاج: يقال: بَلَغَ الرَّجُلُ يَبْلُغُ بَلاغَةً فهو بَلِيغٌ؛ إذا كان يُبلِّغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه. وقد قيل: البلاغةُ: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. وقيل: حُسن العبارة مع صحة المعنى. وقال خالد بن صفوان: إن أحسن الكلام: ما قلَّت ألفاظه وكثرت معانيه. وخير الكلام: ما شوَّق أوله إلى سماع آخره. وقال غيره: إنما يستحق الكلام اسم البلاغة، إذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه.