قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً } قرأ أهل الكوفة: " تجارةً " بالنصب، والباقون: بالرفع، وتعليلهما ما أسلفناه في آية الدَّيْن. فصل أخرج أبو داود في سننه بإسناده، عن ابن عباس قال: " كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِن النَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ } فَنُسِخَ ذلِكَ بالآيَة الأخرى الَّتي في النُّورِ: فقَالَ: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ " ". وهذا عند الفقهاء ليس من باب الناسخ والمنسوخ كما قررناه فيما مضى. قوله: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } قال ابن عباس: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا مثل قوله:{ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [البقرة: 54]. وقيل: هو على ظاهره، نهاهم سبحانه وتعالى أن يقتلوا أنفسهم بطريق المباشرة أو السبب، ويؤيد هذا حديث عمرو بن العاص قال: " احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ في غزوة ذات السلاسل، فَأَشْفَقْتُ إِن اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بأَصْحَابي الصُّبْحِ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بأَصْحَابكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي سمعت الله يقول: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ، فَضَحِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً ". وفي الحديث أحكام، منها: جواز التيمم في البرد في السَّفَر، وعدم وجوب القضاء في الحَضَر، وجواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم، وأن التيمم لا يرفع الحدث؛ لقوله: " وأنت جُنُب ". وقال بعض أهل المعاني: " ولا تقتلوا أنفسكم " بارتكاب المعاصي. وقال الفضيل بن عياض: لا تغفلوا عن حظِّ أنفسكم، فإن مَن غفل عن حظ نفسه فقد قتلها. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ } يا أُمَّة محمد { رَحِيماً } ، حيث حرّم عليكم ما أوجبه على بني إسرائيل من قتل الأنفس، وغيره من الأعمال الشاقة والتكاليف الشديدة. { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } إشارة إلى القتل، أو القتل مع انضمام أكل الأموال بالباطل. وقال ابن عباس: الإشارة إلى جميع ما نهى عنه من أول السورة إلى هاهنا. { عُدْوَاناً وَظُلْماً } مصدران في موضع الحال. { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ } وقرئ: " نَصْلِيهِ " بفتح النون، وقرئ بالتشديد. { نَاراً } يريد: ناراً مخصوصة شديدة العذاب. { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } هيّناً. قوله تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ }. أخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ، قالوا: يَا رَسُولَ الله! وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بالله، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذفُ المُحْصِنَاتِ الغَافِلات ".