الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } * { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } * { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً }

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } ذهب ابن عباس وجمهور المفسِّرين إلى أنهم اليهود، آمنوا بموسى ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد.

وقيل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالتوراة وموسى، { ثُمَّ كَفَرُواْ } بالإنجيل وعيسى، { ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً } بمحمد والقرآن.

وقال قتادة: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد.

وروي عنه: أنها في اليهود والنصارى؛ آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بالإنجيل، ثم آمن النصارى بالإنجيل، ثم تركوه، فكفروا به، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الحسن: هم قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يُظهرون الإيمان، ثم الكفر، ثم ازدادوا كفراً بموتهم على كفرهم.

وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم كفروا بعده، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن.

وقيل: هو نعت المنافقين، آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً بالثبات على النفاق حتى ماتوا عليه.

{ لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ويمكن أن يُستدل بهذه الآية على عدم قبول توبة مَن تكررت ردّته، وهو مذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، لأن الله أخبر عن الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان أنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلاً، ومن كان بهذه المثابة لا يقبل الله له توبة.

قوله: { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ } قال الزجَّاج: المعنى: اجعل موضع بشارتهم العذاب، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف.

قال الشاعر:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بخَيْلٍ     تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
ثم وصف المنافقين فقال: { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس: كانوا يوالون اليهود.

{ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ } أي: الغلبة والاستعلاء على محمد وأصحابه، مأخوذ من قولهم: أرض عَزاز: وهي التي لا تنبت، كأن الشدة منعتها من ذلك، وعزَّ الشيء: أي صعب واشتد وجوده، ومنه مَنْ عزَّ بزَّ: أي: مَن اشتد وقوي، غلب وسلب.

قال الشاعر:
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حمىً يُتَّقى     إِذِ النّاس إِذ ذاكَ مِنْ عَزَّ بزّا
{ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } فعنده تُبتغى، فالتمسوها بالإيمان والطاعة.

قال رجل -يريد سفراً- للإمام أحمد: أوصني، فقال: أعِزَّ أمر الله حيث ما كنت يعزّك الله.

قوله: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ } قرأ عاصم: " نَزَّلَ " بفتح النون والزاي.

والذي نَزَل هو: النهي عن مجالسة الخائضين في آيات الله، وذلك في سورة الأنعام في قوله:وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [الأنعام: 68].

{ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ } في موضع نصب، على قراءة عاصم، وفي موضع رفع، على قراءة الباقين.

وقوله: { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } يستلزم وجود كافرين مستهزئين، فيعود الضمير في قوله: { مَعَهُمْ } إليهم.

{ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } المماثلة واقعة بين الخائضين والقاعدين معهم في الكفر إذا كانوا راضين بحالهم، أو في المعصية إذا لم يكونوا راضين.

ويحتمل عندي: أن الخطاب بهذه الآية للمنافقين، فإنهم كانوا يقعدون مع اليهود خائضين في آيات الله بالتكذيب والاستهزاء، ألا تراه يقول عقيب ذلك: { إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } أي: كما اجتمعوا في الدنيا على التكذيب والاستهزاء، يجمعهم في الآخرة في العذاب.