قوله عز وجل: { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي: فرعكم من أصل واحد، وهو نفس آدم عليه السلام. { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني: حواء عليها السلام. و«مِنْ» للتبعيض، إن أريد بالنفس جملة آدم، وإلا فهي لبيان الجنس، أو لابتداء الغاية. قال ابن عباس وابن مسعود: خلقت بعد دخوله الجنة. وقال كعب ووهب وابن إسحاق: قبل دخوله الجنة. قال ابن عباس: خلقت من ضلع من أضلاعه اليسرى. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ خَيْراً، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ مِنَ الضِّلَعِ أَعْلاهُ، [فَإِنْ] ذهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَج ". { وَبَثَّ مِنْهُمَا } أي: فرَّق ونشر في الأرض، من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }. ولما ذكَّرهم سبحانه وتعالى ما دلهم على عظيم قدرته وحكمته، أمرهم بالتقوى رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه، فقال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ }. قرأ أهل الكوفة: «تَسَاءَلُونَ» بالتخفيف، وشدَّده الباقون. فمن شدَّد: فلأن أصلها تتساءلون - بتائين -، فأدغم التاء في السين؛ لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا. ومَن خفَّف: حذف التاء الثانية. والمعنى: تسألون به حوائجكم وحقوقكم، كقول الرجل لأخيه: سألتك بالله، ونشدتك بالله. " والأرحام " أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو يكون عطفاً على محل الجار والمجرور، نحو: مررت بزيد وعَمْراً. ويؤيده قراءة ابن مسعود: " وبالأرحامِ ". وقرأ حمزة: " والأرحامِ " بالجرّ، فعطف المظهر على المضمر. قال سيبويه: لا يجوز عطف الظاهر على المكني المخفوض من غير إعادة الخافض، إلا في ضرورة الشعر، وأنشد:
فَاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا
فَاذهَبْ فَمَا بكَ وَالأَيَّامُ مِنْ عَجَب
وقال الزجاج: إجماع النحويين أنه يَقْبحُ أن يُنْسَق باسْمٍ مُظهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض؛ كقوله تعالى:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص:81]. وَيستقبحُ النحويون: مررت به وزيد، لأن المكني المخفوض حرف مُتَّصِلٌ غيرُ منفصل، فكأنه كالتنوين في الاسم، فَكُرِه أن يعطف اسم يَقُومُ بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. وقال أيضاً: الخفض في " الأرحام " خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ ". قال ابن الأنباري: إنما أراد حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت به عادتهم. فالمعنى: الذي كنتم تسألون به وبالأرحام في الجاهلية. وقال مكي: هو قليل في الاستعمال، بعيد في القياس، لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، ويقبح في أحدهما ما يقبح في الآخر، فكما لا يجوز: واتقوا الله الذي تسألون بالأرحام، و " هـ " ، فكذلك لا يحسن: تسألون به والأرحام. قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي: حفيظاً يرقب عليكم أعمالكم.