قوله تعالى: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } قال ابن عباس: اسأل أهل مكة سؤال توبيخ: { أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } ، وذلك أن قريشاً وقبائلاً من العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وهذا كقوله تعالى:{ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم: 21-22]. { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً } معناه: بل أخلقنا الملائكة إناثاً { وَهُمْ شَاهِدُونَ } حاضرون خلقنا إياهم، ومضنون ذلك بجهلهم حيث اطمأنوا إلى هذه المقالة التي لا يعضدها برهان. { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ ٱللَّهُ } وقرئ شاذاً: " وَلَدُ الله " بالرفع والإضافة، أي: الملائكة ولد الله. والولد فَعَل بمعنى مفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكّر والمؤنث، تقول: هذا ولدي، وهؤلاء أولادي، وهذه ولدي. قوله تعالى: { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } قرأ أبو جعفر ونافع في رواية وَرْش وإسماعيل: " لكاذبونَ اصْطَفَى " بوصل الهمزة على الخبر، والابتداء بكسر الهمزة. وقرأ الباقون " أصْطَفَى " بفتح الهمزة، على الاستفهام الذي بمعنى التوبيخ؛ كقوله تعالى:{ أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } [الزخرف: 16]، وقوله تعالى:{ أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } [الطور: 39]، وقوله تعالى:{ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } [النجم: 21]، فكما أن هذه المواضع كلها استفهام، فكذلك قوله تعالى: { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ }. ومن قرأ بوصل الألف فإنه على وجه الخبر، كأنه: اصطفى البنات فيما يقولون؛ كقوله تعالى:{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49] أي: عند نفسك وفيما كنت تقوله وتذهب إليه. ويجوز أن يكون المعنى: وإنهم لكاذبون، قالوا أصطفى البنات، فحذف: قالوا. وقوله بعد: { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } توبيخ لهم على قولهم الكذب. ويجوز أن يكون قوله تعالى: { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ } بدلاً من قوله تعالى: { وَلَدَ ٱللَّهُ }؛ لأن ولادة البنات [واتخاذهنّ] اصطفاءً لهن. ويجوز أن يكون " اِصْطَفَى " تفسير لكذبهم الذي نسب إليهم في قولهم: { وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }. هذا كله كلام أبي علي. وقال الفراء: أراد الاستفهام، فحذف حرف الاستفهام؛ كقوله تعالى:{ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ } [الأحقاف: 20]. وقراءة الأكثرين هاهنا مثل قوله تعالى:{ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [الآية: 8] في سبأ. { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } أي: حُجّة نزلت من السماء بأن الملائكة بنات الله. { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ } الذي أنزل عليكم في ذلك؛ كقوله تعالى:{ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [الروم: 35] وهذه الآيات مؤذنة بغضب شديد، وإنكار فظيع، وتضليل لأحكام كفار قريش ومن دَانَ بقولهم واستهزائهم. قوله تعالى: { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } قال قتادة: قالوا: صاهر الله الجن، والملائكة من بينهم. وقال الكلبي: قالوا لعنهم الله: تزوج من الجن [فخرج] منها الملائكة. وقال مجاهد: لما قالت قريش: الملائكة بنات الله، قال أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن. وقال الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله. وقال عطية العوفي وابن السائب: هو قول الزنادقة: أن الله وإبليس أخوان، وأن النور والخير [والحيوان] النافع من خلق الله، والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس. { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي: أن القائلين هذا القول لمحضرون في النار. وقيل: الضمير في " إنهم " للجِنَّة إن فُسِّروا بالشياطين. قوله تعالى: { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } استثناء منقطع من " المحضرين " ، معناه: لكن المخلصين ناجون، و { سُبْحَانَ ٱللَّهِ } اعتراض. ويجوز أن يكون استثناء من الضمير في { يَصِفُونَ } أي: لكن عباد الله المخلصين براء من أن يوصفوه به.