قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } اختلف العلماء في المراد بالكتاب على قولين: أحدهما: أنه اسم جنس. فعلى هذا؛ فالمراد بالمصطفين قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء وأتباعهم. قاله الحسن. فيكون التقدير: والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق، ثم كنا أورثنا الكتاب الأنبياء قبلك؛ كقول الشاعر:
قُلْ لمنْ سَادَ ثم سَادَ أبوه
.......................
فعلى هذا؛ يكون المعنى: فمن أممهم ظالم لنفسه... الآية. الثاني: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، على معنى: أورثناهم الإيمان بالكتب كلها. قال ابن عباس: أورث الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب أنزله الله تعالى. فعلى هذا؛ تقدير الآية: أنزلنا الكتب المتقدمة ثم أورثنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان بها. ويؤيد هذا القول: أن حقيقة الإرث: [انتقال الشيء] من قوم إلى قوم. القول الثاني: أن المراد بالكتاب: القرآن. والمعنى: ثم نقلنا العلم والحكم إلى الذين اصطفينا من عبادنا، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور المفسرين. ثم قسمهم فقال تعالى: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } قال الضحاك: هم المنافقون. وقال السدي: أصحاب المشأمة. وقال مجاهد: الجاحد. فيكون المراد بالاصطفاء على هذه الأقوال: تكريمهم وتشريفهم بإنزال الكتاب عليهم، كما قال تعالى:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] وإن أبوا ذلك ولم يقبلوه. وقال ابن عباس في رواية عطاء: " فمنهم ظالم لنفسه ": وهو الذي مات على كبيرة لم يتب منها. وقال الحسن: " الظالم لنفسه ": الذي ترجَّحَتْ سيئاته على حسناته، و " المقتصد ": الذي استوت حسناته وسيئاته، و " السابق ": من ترجحت حسناته على سيئاته. وهذا القول أشهر الأقوال في التفسير، وأشبه بالأحاديث والآثار. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له. ورواه أيضاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: سابقنا أهل جهادنا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا. وقال أسامة بن زيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلهم من هذه الأمة ". وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: كلهم من أهل الجنة، السابق مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة والرزق، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق [به]، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا. فَرَضِيَ الله عن أم المؤمنين الصّدّيقة بنت الصّدّيق، كانت تعلم بشهادة الله تعالى لها في قوله تعالى:{ أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [النور: 26] أنها من أهل الجنة، ولكن المؤمن يهضم نفسه، ونظيره قول أبيها: " وُلِّيتُكم ولستُ بخيركم ".