{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } عطف على قوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } [سبأ: 15]، يعني: وكان من قصتهم أنّا جعلنا بينهم { وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } بالماء والشجر، وهي قرى الشام. ويروى: أنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية. { قُرًى ظَاهِرَةً } متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها قرى ظاهرة لأعين الناظرين. وهذا معنى قول الحسن. وراكبه تتبين الطريق ظاهرة للسائلة، وكان شجرهم من أرض اليمن إلى الشام. { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } قال الحسن وقتادة وغيرهما: كانوا يغدون [فيقيلون] في قرية ويروحون فيبيتون في قرية، لا يخافون جوعاً ولا عطشاً ولا عدوّاً، ولا يحتاجون إلى حمل زاد ولا ماء. وقال ابن قتيبة: " وقدرنا فيها السير ": جعلنا بيْن القرية والقرية مقداراً واحداً. { سِيرُواْ فِيهَا } أي: وقلنا لهم سيروا فيها { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } أي: إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف. قال المفسرون: آمنين من الجوع والعطش والسباع والعدو، فبطروا النعمة، وملُّوا العافية، وطلبوا الكَدّ والتعب، كما طلب بنوا إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى. { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام: " بَعِّدْ " بتشديد العين وكسرها وسكون الدال من غير ألف، على لفظ السؤال. وقرأ الباقون " بَاعِدْ " بالألف، على لفظ السؤال أيضاً. وقرأت ليعقوب: " رَبُّنا " برفع الباء، " بَاعَدَ " على صيغة الماضي، وهو خلاف المعنى الأول. { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي. وقيل: بسؤالهم، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } يتحدث الناس بهم ويتعجبون منهم، { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي: فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وذلك أنهم بعد أن خربت مساكنهم وذهبت جناتهم، تبدَّدُوا في البلاد، فضربت العرب بهم المثل فقالت: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ. قال كثير:
أيادي سَبَا يا عَزَّ ما كنتُ بعدكُم
فلم يَحْلُ بالعينين بَعْدَكِ منظَرُ
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } عن معصية الله تعالى { شَكُورٍ } لنعمه.