قال السدي: قال ابن لقمان لأبيه: أرأيت لو أن حبّة من خردل في مَقْل البحر أكان الله تعالى يعلمها؟ فقال له ما أخبر الله تعالى عنه في قوله: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ }. قرأ نافع: " مثقالُ " بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. فمن رَفَعَ جعل " كان " تامة لا تحتاج إلى خبر، فرفع " المثقال " بها، وأتى بالفعل على لفظ التأنيث حملاً على المعنى؛ لأن المثقال في معنى السيئة أو المظلمة، ومثله قوله تعالى:{ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160] فأنَّث؛ لأن المعنى: فله عشر حسنات. ومن نَصَبَ جعل " كان " ناقصة، فأضمر فيها اسمها، ونصب " المثقال " على الخبر، على معنى: إن تك المظلمة أو السيئة قدر مثقال حبة من خردل. { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } قال ابن عباس: هي صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة السماء منها. قال السدي: هذه صخرة ليست في السماوات ولا في الأرض، هي تحت سبع أرضين، عليها ملك قائم. وقال قتادة: " فتكن في صخرة ": في جبل. وقرأ عبدالكريم الجزري: " فَتَكِنَّ " بكسر الكاف، من قولهم: كَنَّ الطائرُ يَكِنُّ وُكُوناً؛ إذا استقرّ [في] وكنته، وهو مقره ليلاً، وهو أيضاً عُشّه الذي يبيض فيه ووَكْرِه، ومنه قول الشاعر:
وقد أغْتَذِي والطيرُ في وَكَنَاتِها
بمنجَردٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَل
{ يَأْتِ بِهَا } يوم القيامة للحساب والجزاء، { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ } يصل علمه إلى كل خفي. وقال قتادة: لطيف باستخراجها، { خَبِيرٌ } بمستقرها. قوله تعالى: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } أي: على ما أصابك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى ما أصابك من المصائب. { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } سبق تفسيره في آخر آل عمران. قوله تعالى: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: " تُصَعِّرْ " بتشديد العين من غير ألف. وقرأ الباقون: " تُصَاعِرْ " بألف مع تخفيف العين. قال أبو علي: هما لغتان، مثل: ضَاعَفَ وضَعَّف. وقال أبو الحسن: " تُصَاعِرْ " لغة أهل الحجاز، و " تُصَعِّر " لغة تميم. والمعنى فيه: لا تتكبر على الناس ولا تُعرض عنهم تكبراً عليهم. قال أبو عبيدة: أصل هذا من الصَّعَرِ الذي يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها. قال أبو علي: كأنه يقول: لا تعرض عنهم، ولا تَزْوَرَّ كازْوِرَار الذي به هذا الدّاء الذي يلوي منه عنقه ويُعرضُ بوجهه. قال ابن عباس: هو الذي إذا سُلِّمَ عليه لوى عنقه كالمستكبر. وقال مجاهد: هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحِنَة - الصَّدّ - فيراه فيعرض عنه. وباقي الآية مفسر في سُبْحان والنساء. قوله تعالى: { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي: اعدل فيه واجعله بين المشيين، لا تدبّ كدبيب المتماوتين، ولا تثب وثب [الشطار]، وليكن قصداً خارجاً عن قانون الاختيال والإسراع المُذْهِب بالوقار. قال عطاء: امْشِ بالوقار والسكينة. { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي: انقص منه. قال الزجاج: ومنه: غَضَضْتُ بصَري، وفُلانٌ يَغُضُّ [بَصَرهُ] من فلان، [أي: يتنقَّصُه]. { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ } أقبح الأصوات. قال الزجاج: يقول: أتانا فُلانٌ بوجه مُنْكَر، أي: قبيح. قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله الله للحمير. وقرأ أبو المتوكل وابن أبي عبلة: " أن أنكر " بفتح الهمزة.