الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } * { وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ }

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ } أي: من قبل القرآن، { هُم بِهِ } أي: بالقرآن.

فإن قيل: هل يجوز أن يعود الضمير في " به " [إلى] الكتاب؟

قلت: يمنعُ من ذلك قوله: { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ }.

وهذه الآية من جملة ما أثنى الله به على مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام.

قال رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم.

وقيل: نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل، اثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وثمانية من أهل الشام.

{ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } أي: وإذا يقرأ القرآن على مؤمني أهل الكتاب { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ } ، وذلك أنهم وُعدوا بنبي وكتاب، { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ } أي: من قبل نزول القرآن { مُسْلِمِينَ } أي: على دين الإسلام؛ لأن الإسلام صفة كل موحّدٍ مصدّقٍ للوحي.

{ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } قال قتادة: بما صبروا على الكتاب الأول والكتاب الثاني.

وقيل: بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله.

وقيل: بما صبروا على أذى المشركين وأذى أهل الكتاب.

{ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } أي: ويدفعون بالطاعة المعصية المتقدمة.

وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك.

وقال مقاتل: يدفعون ما يسمعون من الأذى والشتم من المشركين بالعفو والصفح.

{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } في طاعة الله.

{ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ } وهو القبيح من القول، { أَعْرَضُواْ عَنْهُ } نزاهةً وصيانةً عن التلوث بسماعه، وإكراماً لأنفسهم عن التعرض لجوابه، وهذا الوصف مما يفتخر به أشراف الناس، وذووا النفوس الأبيّة، قال الشاعر:
فَقُلْ لزهيرٍ إنْ شَتَمْتَ سَرَاتَنا   فلسْنَا بشَتَّامينَ للمُتَشَتِّم
إلى أن قال:
وتجهلُ أيدينا ويحلُمُ رأيُنا   ونشْتِمُ بالأفعالِ لا بالتَّكَلُّم
وقال آخر:
فوالله ما بُقْيَا عليكم تُركْتُم   ولكنني أكرمتُ نفسي عن الجهل
وقال آخر:
وأغفرُ عَوراءَ الكريم ادِّخَارَه   وأعرضُ عن شَتْم اللئيمِ تَكَرُّما
وقد أحسن لقيط بن زرارة في قوله:
أغرَّكُم أني بأحسن شيمةٍ   بصيرٌ وأني بالفَواحش أخْرَقُ
وأنك قد سابَبْتنَا فغلبْتَنا   هنيئاً مريئاً أنت بالفُحْشِ أحْذَقُ
{ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } خطاب لِلاّغِين المدلول عليهم بقوله: { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ }.

وقوله: { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } تسليم مُتاركةٍ وتوديعٍ، لا تسليم تحية.

ومثله قولي في أبيات أرثي بها ولدي أبا صالح أحمد:
على زينة الدنيا ولذّة عيشها   السلام فهذا منهما آخر العهد
{ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } أي: لا نطلب صحبتهم والتلبّس بأعمالهم.

قال السدي: لما أسلم عبدالله بن سلام جعل اليهود يشتمونه وهو يقول: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

فإن قيل: هل تقدر على [إبداء] معنى تَضَمُّنِهِ الثناء على مؤمني أهل الكتاب بهذه الآيات الأربع؟

قلتُ: نعم، وهو حضّ الناس على الإيمان بالنبي المنعوت في الكتب المتقدمة، بما استثبتته الأحبار والربانيون فيها من الدلائل الناطقة برسالته الشاهدة بنبوته، وتنبيههم على الاقتداء بمن يعلمون براعتهم في العلم ومهارتهم في دراسته. هذا مع ما في الثناء على أهل الكتاب من تقريع ذوي النفوس الأبية من الأمة العربية، والتعريض بذمها لموضع إعراضها عن الإيمان، فإنك لا تكاد تجد أنكى لها وأوغل في أذاها من هجائها ومدح أعدائها، ولا أرغب منها في المدح والثناء، فحرّك هممهم إلى الإيمان بذلك.