قوله تعالى: { وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ } أي: واتل عليهم يا محمد قصة { مُوسَىٰ } وحديثه مع فرعون والقبط وأقاصيص الأمم السالفة ليعتبروا بذلك. { أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } يعني: القبط الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وعبادة فرعون، وظلموا بني إسرائيل باسترقاقهم واستخدامهم في الأعمال الشاقة، وسَوْمِهم سُوء العذاب، بذبح الأبناء واستحياء النساء. ثم بيّن القوم الظالمين فقال: { قَوْمَ فِرْعَوْنَ }. وقوله: { أَلا يَتَّقُونَ } كلام مستأنف خارج مخرج التعجب لموسى من فرط جهلهم وظلمهم، وكونهم مع ذلك آمنين مطمئنين لا يخافون بطش الله تعالى وانتقامه، وسنّته في أمثالهم من الظَّلَمَة والفجرة. فإن قيل: ما وجه قراءة من قرأ: " يَتَّقُونِ " بكسر النون؟ قلتُ: الأصل: " يتقونَنِي " ، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء اكتفاء بالكسرة، أو على معنى: يا هؤلاء اتقون، كقوله تعالى:{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ } [النمل: 25] على قراءة الكسائي. فإن قيل: ما وجه قراءة حماد بن سلمة: " ألا تتّقون " بالتاء على المخاطبة؟ قلتُ: هو على إضمار القول، تقديره: أرأيت القوم الظالمين، فقل لهم: ألا تتقون، وإضمار القول كثير. وقد ذكرناه في مواضع. أو هو على طريقة الالتفات إليهم بالجَبْهِ والتوبيخ، ونظيره: أن تشكوا جانياً إلى بعض أخصائه ثم تُقبل عليه عند احتداد مزاجك وغضبك وأنت في شكايتك [قائلاً]: ألا تستحي! ألا تتَّقِي الله!. ذكر الأول أبو الفتح ابن جني، والثاني الزمخشري. { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي } [بتكذيبهم إياي] { وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } للعقدة التي فيه، فاعتلَّ بثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق صدره، وحبْسَة لسانه. قرأ الأكثرون: " يضيقُ " و " ينطلقُ " بالرفع، عطفاً على " أخافُ ". وقرأت ليعقوب الحضرمي: " ويضيقَ " ، " ولا ينطلقَ " بالنصب فيهما، عطفاً على " يكذبون ". فإن قيل: على قراءة يعقوب؛ الخوف يكون لأمر متوقع، وحبْسَةُ اللسان في موسى وصف لازم له، فكيف قال: إني أخاف أن لا ينطلق لساني؟ قلتُ: لا يخلو إما أن يكون هذا القول من موسى بعد أن أُجيبت دعوته وحُلَّتْ عقدته أو قبله، فإن كان بعده زال الإشكال. وإن كان قبله فالمعنى: إني أخاف زيادة العُقْلَة التي لا يجامعها انطلاق اللسان. فلما مَهَّدَ موسى عليه السلام العُذْرَ بين يدي مسألته، سأل ربه أن يؤيده بأخيه فقال: { فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ } أي: ابعث إليه جبريل واجعله رسولاً. ثم استدْفَعَ ربه المحذور الذي كان يخافه بسبب قتل القبطي فقال: { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ } أي: ولهم عليّ دعوى ذنب أو تَبِعَة ذنْب، وهو قتل القبطي الذي وكزه فقضى عليه، { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } به. فآمَنَهُ الله تعالى وأعطاه أمنيته بصيغةٍ تدلُّ على الدَّفْعِ وتُؤذنُ بالزَّجْر فقال: { كَلاَّ } أي: ارتدعْ يا موسى عن الإقامة على هذا الظن، فإني من ورائك بالحفظ والرعاية.