الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } * { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ }

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ }: كالتي قبلها.

{ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } أي: يَسُوقه سَوْقاً رفيقاً، والسحاب يكون واحداً؛ كالعماء، ويكون جمعاً كالرّباب.

فإن قيل: إن كان واحداً فما وجه قوله: " بينه " فإنه لا يجوز أن يقول: زيدٌ المال بينه، حتى يقول: وبين عمرو؟

قلتُ: وجهه أن يقال معناه: ثم يؤلف ويضم بين أجزائه، كما في قول امرئ القيس:
........................     بين الدَّخُولِ فحَوْمَل
قوله تعالى: { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي: متراكماً بعضه فوقه بعض، { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ } وهو المطر { مِنْ خِلاَلِهِ } أي: من فوق السحاب ومخارجه، وهو جمع خَلَل، كَجَبَل وجبال. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس: " مِنْ خَلَلِه ".

{ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } قال الزمخشري: " مِن " الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، أو الأولتان للابتداء، والثالثة للتبعيض.

ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وعلى الأولى مفعول " يُنزل ": " مِنْ جبال " ، أي: من بعض جبال.

وقال غيره: قوله تعالى: " فيها من برد " إن شئت كان التقدير: فيها شيء من برد، على قول سيبويه. وعلى قول الأخفش: فيها برد، فيكون " مِنْ " زائدة، ويكون موضع الجار [والمجرور] رفعاً بالظرف.

ويجوز أن يكون " مِنْ بَرَد " تبييناً لـ " جبال " ، التقدير: من جبال بَرَدٍ؛ لأن قولك جبال بَرَدٍ، وجبال من بَرَدٍ؛ كقولك: خَاتَمُ حديد، وخاتمٌ من حديد.

والمعنى على هذا: ينزل من السماء جبال برد.

ويجوز أن يكون قوله: " من جبال " بدلاً من " من السماء " ، ويكون قوله: " من بَرَدٍ " مفعولاً، تقديره: وينزل من جبال في السماء برداً أو شيئاً من بَرَدٍ.

قال ابن عباس: أخبر الله عز وجل أن في السماء جبالاً من بَرَدٍ.

{ فَيُصِيبُ بِهِ } أي: بالبَرَد { مَن يَشَآءُ } فيضُرُّه في زرعه وثمره، { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } فلا يضرّه.

{ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } أي: يقرُبُ ضوءُ بَرْقِ السحاب، { يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } أي: يخطفها لشدة لمعانه، ومثله:يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ } [البقرة: 20].

وقرأت لأبي جعفر: " يُذهِبُ " بضم الياء وكسر الهاء، فتكون الياء زائدة، تقديره: يُذهب الأبصار.

فإن قيل: ما وجه قراءة طلحة بن مصرف: " سناء برقه " بالمد، مع أن السناء هو الشرف؟

قلتُ: يجوز أن يكون المراد: المبالغة في صفاء ضوئه، فأطلق عليه لفظة الشَّرَف، كما تقول: هذا ضوء كريم.

وقد ذكرنا فيما مضى أن العرب توقع الكرم على كل مختار في جنسه.

{ يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } قال المفسرون: يأتي بهذا ويذهَب بهذا.

ويجوز عندي أن يكون المراد بتقلبهما: تغاير أحوال الخلق فيهما ما بين موت وحياة، وقبض وبسط، وعز وذل، وغير ذلك.

ويدل على صحة هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل أنه قال: " يؤذيني ابن آدم يسُبُّ الدهر وأنا الدهر؛ بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار "

أي: أنا الذي أقلب الليل والنهار بتصاريف أحوالهما الكائنة فيهما.

{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ } التقليب { لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } لدلالة لأرباب العقول على قدرة الله تعالى ووحدانيته وعظَمَتِه.