الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } أجمع علماء الإسلام على أن هذه الآية وما في حَيِّزها نزلت في قصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم السلمي، وأبو الحسن الصوفي قالا: أخبرنا أبو الوقت، أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا عبدالله بن أحمد، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب الزهري.

[وأخبرنا] حنبل بن عبدالله إذناً واللفظ له قال: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو علي بن المذهب، أخبرنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرَّأها الله عز وجل، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصاً، وقد وعيتُ عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يُصَدِّقُ بعضاً، ذكروا: " أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أُنزل الحجاب وأنا أُحْمَلُ في هوْدَجي وأُنْزَلُ فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة أَذِنَ ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنونا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرَّحْل، فلمست صدري فإذا عقد من جَزْع أظْفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هَوْدَجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خِفافاً لم يَهْبَلْنَ ولم يَغْشَهُنَّ اللحم، إنما يأكلن العُلْقَةَ من الطعام، فلم يستنكر القوم ثِقَلَ الهودَج حين رحلوه ورفعوه، وكنتُ جاريةً حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيمَّمتُ منزلي الذي كنت فيه وظننتُ أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمتُ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عَرَّسَ من وراء الجيش فادَّلَجَ، وأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضربَ عليَّ الحجاب، فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطِئَ على يدها فركبتُها، فانطلق يقودُ بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغرين في [نَحْرِ] الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كِبْرَه منهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرفُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول: كيف تيكُم؟ فذاك يَريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجتُ بعدما نَقَهْتُ وخرجتْ معي أم مسطَح قِبَل المناصِعِ وهو مُتبرَّزُنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريباً من بيوتنا، وأمْرُنا أمْرُ العرب الأول في التنزُّه، وكنا نتأذَّى بالكُنُف أن نتّخذها عند بيوتنا، فانطلقنا أنا وأم مِسْطَح وهي بنت أبي رُهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أُثاثة بن عبّاد بن المطلب، فأقبلت أنا وبنت أبي رُهم قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها فقالت: تَعِسَ مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، تسُبين رجلاً قد شهد بدراً؟ فقالت: أي هَنَتَاهُ أوَ لَمْ تسمعي ما قال؟ قلتُ: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، [فازددتُ] مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي فدخل عَليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم قال: كيف تيكُم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقَّنَ الخبر من قِبَلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ أبويّ فقلت لأمي: يا أمَّتاه، ما يتحدّث الناس؟ فقالت: أي بُنية هوِّني عليك، فوالله لَقَلَّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبُّها ولها ضرائر إلا أكثرنَ عليها، قالت: قلت: سبحان الله أوَ قد تحدَّث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع ولا [أكتحلُ] بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استَلْبَثَ الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يَعْلَمُ من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود [فقال: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيراً]. وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يُضيِّقِ الله تعالى عليكَ والنساءُ سواها كثير، [وإن] تسأل الجارية [تَصْدُقك]. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبُكِ من عائشة؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمصُهُ عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجنُ فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال [وهو] على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاهُ في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية- فقال لسعد بن معاذ: لعمرك لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنّه، فإنك مُنافق تُجادل عن المنافقين، فثار الحيّان الأوس والخزرج، حتى هَمُّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُم حتى سكتوا وسكتَ. قالت: وبكيتُ يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالقٌ كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنَتْ عليّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة! فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئُك الله عز وجل، وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم [مقالتَه] قلصَ دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، قالت: فقلتُ وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله قد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في أنفسكم وصدَّقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة - والله عز وجل يعلم أني بريئة - لا تُصدِّقُوني بذلك، ولئن اعترفتُ لكم بأمر - والله عز وجل يعلم أني بريئة - تُصدقوني، وإني والله لا أجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } ، [قالت]: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مُبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى في أمري، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يُبرئني الله عز وجل بها، قالت: والله ما رامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من البيت أحدٌ حتى أنزل الله عز وجل على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمَان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فلما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برَّأك، فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، هو الذي أنزل براءتي، قالت: فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ... } عشر آيات فأنزل الله عز وجل هذه الآيات براءتي. قالت: فقال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أُنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ } إلى قوله: { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله عز وجل لي، فَرَجَعَ إلى مسطح النفقة التي كان يُنفق عليه وقال: لا أنْزِعُها منه أبداً.

قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري وما علمت [أو ما] رأيتِ أو ما بلغكِ؟ قالت: يا رسول الله أُحْمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا خيراً. قالت عائشة: وهي التي كانت تُساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله تعالى [بالوَرَع]، وطفقت حمنة بنت جحش تُحارب لها، فهلكت فيمن هلك.

قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط "

السابقالتالي
2 3 4