وقوله تعالى: { وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ ٱلكِتَابَ بِٱلحَقِّ } يعني أنزلنا إليك يا محمد الكتاب بالحق، يعني: بيان الحق، ويقال: بالعرض والحجة ولم ينزله بغير شيء، { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني موافقاً للتوراة والإنجيل والزبور في التوحيد، وفي بعض الشرائع، ثم قال تعالى: { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } يقول: شاهداً على سائر الكتب، بأن الكتاب الأول من الله تعالى، ويقال: (مهيمناً عليه) يعني قاضياً عليه. ويقال: ناسخاً لسائر الكتب. وروي عن ابن عباس أنه قال: مؤتمناً على ما قبله. وقال القتبي: أميناً عليه. ويقال: ومهيمناً عليه في معنى مؤتمن. إلا أن الهاء أبدلت من الهمزة، كما يقال: هَرَقْتُ الماء، وأرَقْتُه، وإياك، وهياك. ثم قال: { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } يعني فاحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى في القرآن، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم { عَمَّا جَاءكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى في القرآن من بيان الحق، وبيان الأحكام، ثم قال: { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } يقول: جعلنا لكل نبي شريعة، والإيمان واحد، ولم يختلف الرسل في الإيمان، وإنما اختلفوا في الشرائع، قال القتبي: الشرعة والشريعة واحد، يعني السنة، والمنهاج: الطريق الواضح، وقال الزجاج: الشرعة والدين والمنهاج: الطريق. وقد قيل: هما شيء واحد، وهو الطريق. ويقال: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } معناه فرضت على كل أمة ما علمت أن صلاحهم فيه. ثم قال: { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً } يعني جعلكم على شريعة واحدة، { وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَكُمْ } ليخبركم { فِيمَا ءاتَـٰكُمُ } يعني أمركم من السنن والشرائع المختلفة، ليتبين من يطيع الله فيما أمره ونهاه ومن يعصيه. ثم قال: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } يعني: بادروا بالطاعات وبالأعمال الصالحة، وإلى الصف المقدم، والتكبيرة الأولى، ثم قال: { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدين والسنن يوم القيامة. فهذا وعيد وتهديد لتستبقوا الخيرات ولا تتبعوا البدعة ولا تخالفوا الكتاب. ثم قال: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } وذلك أن يهود بني النضير قالوا فيما بينهم: اذهبوا بنا إلى محمد - عليه السلام - لعلنا نفتنه عن دينه وإنما هو بشر، فأتَوْه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وسادتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعك اليهود، ولن يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، فنؤمن بك فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فنزلت هذه الآية. { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } يعني اقضِ بينهم بما في القرآن. { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } في الحكم { وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } يعني يصرفوك { عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } وقال في رواية الضحاك تزوج مجوسي ابنته، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبت نفقتها، فأمر الله تعالى رسوله أن يفرق بينهما بقوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ }.