الرئيسية - التفاسير


* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ) مصنف و مدقق


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } * { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } * { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } * { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }

قال عز وجل: { سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلأَزْوٰجَ كُلَّهَا } يعني تنزيهاً لله عز وجل الذي خلق الأصناف كلها { مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ } يعني ألواناً من النبات، والثمار، ففي كل شيء خلق الله تعالى دليلاً على وحدانيته تعالى وربوبيته { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } يعني خلق من جنسهم أصناف الذكر والأنثى، وألواناً مختلفة { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } يعني وخلق من الخلق ما لا يعلمون، وهذا كقولهوَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] ثم ذكر لهم دلالة أخرى ليعتبروا بها، فقال عز وجل: { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ } يعني علامة وحدانيته الليل { نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } يعني نخرج ونميز منه النهار { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } يعني داخلون في الظلمة، ويقال: يبقون في الظلمة، ويقال: إن الله خلق الدنيا مظلمة، ثم قال { وَٱلشَّمْسُ } سراجاً، فإذا طلعت الشمس، صارت الدنيا مضيئة، وإذا غربت الشمس بقيت الظلمة كما كانت، وهو قوله تعالى { نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } يعني ننزع الضوء منه { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } يعني يبقون في الظلمة، ويقال: نسلخ الليل يعني نخرج منه النهار إخراجاً لا يبقى منه شيء من ضوء النهار، كما نسلخ الليل من النَّهَار، فكذلك نسلخ النهار من الليل، فكأنه يقول: الليل نسلخ منه النهار، والنهار نسلخ منه الليل، فاكتفى بذكر أحدهما لأن في الكلام دليلاً، وقد ذكر في آية أخرى قال:يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } [الزمر: 5] ثم قال عز وجل والشمس { تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا } قال مقاتل: يعني لوقت لها، وقال الكلبي: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها ولا تتجاوزها، ثم ترجع إلى أول منازلها، وقال القتبي: { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا } يعني إلى مستقر لها، ومستقرها أقصى منازلها في الغروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها، ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزها، وطريق آخر ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه " قال كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تغرب، وتذهب حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها حتى تستشفع وتطلب، فإذا طال عليها قيل لها اطلعي مكانك " فذلك قوله { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا } قال مستقرها تحت العرش ثم قال { ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } العزيز بالنقمة، العليم بما قدره من أمرها وخلقها، وروى عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لمُّسْتَقِرٌّ لَهَا } يعني لا تقف ولا تستقر، ولكنها جارية أبداً ثم قال عز وجل: { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (وَٱلْقَمَرُ) بالضم، وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم فله وجهان أحدهما أن يكون على الابتداء، والآخر معناه وآية لهم القمر، عطف على قوله: { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱللَّيْلُ } ومن قرأ بالنصب، فمعناه: وقدرنا القمر، وقال مقاتل في قوله { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ } يعني قدرناه منازل في السماء يبدو رقيقاً، ثم يستوي، ثم ينقص في آخر الشهر، وقال الكلبي { قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ } أي قدرناه منازل بالليل، ينزل كل ليلة في منزل، ويصعد في منزل حتى ينتهي إلى مستقره الذي لا يجاوزه، ثم يعود إلى أدنى منازله، ويقال: إن القمر يدور في منازله في شهر واحد، مثل ما تدور الشمس في منازلها في سنة واحدة، قال مقاتل وذلك أن القمر عرضه ثمانون فرسخاً مستديرة، والشمس هكذا، وكان ضوؤهما واحداً، فأخذ تسعة وتسعون جزءاً من القمر فألحقت بالشمس، وروي عن ابن عباس أنه قال: القمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً، وقال بعضهم: القمر والشمس عرض كل واحد منهما مثل الدنيا كلها، ثم قال تعالى { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } يعني صار كالعذق اليابس المنقرس، الذي حال عليه الحول ويقال: للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فإذا صار في آخر منازله دق حتى يعود كالعذق اليابس، والعرجون إذا يبس: دق واستقوس فشبه القمر به، يعني صار في عين الناظر كالعرجون، وإن كان هو في الحقيقة عظيم بنفسه، إلا أنه في عين الناظر يراه دقيقاً ثم قال عز وجل { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ } يعني أن تطلع في سلطان القمر، وقال عكرمة: لكل واحد منهما سلطان، للشمس سلطان بالنهار، وللقمر سلطان بالليل، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل { وَلاَ ٱللَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } يعني لا يدرك سواد الليل ضوء النهار فيغلبه على ضوئه { وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يعني في دوران يجرون ويدورون، ويقال " يسبحون " يعني يسيرون فيه بالانبساط، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه، وقال بعضهم: السماء كالموج المكفوف والشمس والقمر والكواكب الدوارة يسبحون فيها، وقال بعضهم الأفلاك كثيرة، مختلفة في السير، تقطع القمر في ثمانية وعشرين يوماً، والشمس تقطع في سنة، وقال بعضهم: الفلك واحد، وجريهن مختلف، والفلك في اللغة: كل ما يدور.