الرئيسية - التفاسير


* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } * { فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } * { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

قوله عز وجل: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } ومدين بن إبراهيم عليهما السلام وكانت البير تنسب إليه الماء وصار مدين اسم قبيلة { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أي: جماعة { مّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } أي: وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أنعامهم وأغنامهم ويقال هم أربعون رجلاً ويقال عشرة رجال { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } يعني: من دون الناس { ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } أي: تطردان وقال سعيد بن جبير يعني: حابستان ويقال تحبسان غنمهما وقال القتبي: تذودان أي تكفان غنمهما وحذف الغنم اختصاراً ويقال كانتا تحبسان الغنم لكيلا تختلط بغيرها ويقال تحبسان الغنم لتصدر مواشي الناس وتسقيان بفضل الماء ومما فضل من أغنام الناس وهما ابنتا شعيب النبي عليه السلام { قَالَ } لهما موسى { مَا خَطْبُكُمَا } أي: ما شأنكما ترعيان الغنم مع الرجال وما بالكما لا تسقيان { قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرّعَاء } قرأ أبو عمرو وابن عامر يصدر بنصب الياء وضم الدال وقرأ الباقون يصدر بضم الياء وكسر الدال فمن قرأ بالنصب فهو من صدر يصدر إذا رجع من الماء ومعناه لا نسقي حتى يرجع الرعاء ونسقي بفضلهم لأنا لا نقدر أن نسقي وأن نزاحم الرجال إذا صدروا سقينا بفضل مواشيهم ومن قرأ يصدر بالضم فهو من أصدر يصدر والمعنى حتى يصدر الرعاة أغنامهم { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } لم يقدر على الخروج وليس له عوناً يعينه غيرنا فرجع الرعاة ووضعوا صخرة على البئر فانتهى موسى إلى البئر وقد أطبقت عليها الصخرة فاقتلعها ثم سقى لهما حتى أروتا أغنامهما وقال في رواية الكلبي كان للبئر دلو يجتمع عليه أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر فجاء موسى أهل الماشية فسألهم أن يهيئوا له دلواً من الماء فقالوا إن شئت أعطيناك الدلو على أن تسقي أنت قال نعم فأخذ موسى عليه السلام الدلو فسقى بها وحده فصب في الحوض ثم قربتا غنمهما فشربت فذلك قوله عز وجل: { فَسَقَىٰ لَهُمَا } يعني: أغنامهما { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظّلّ } يعني: تحول إلى ظل الشجرة { فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي لما أنزلت إلي من الطعام فأنا محتاج إلى ذلك إنه كان جائعاً فسأل ربه ولم يسأل الناس ففطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة فقال أبوهما هذا رجل جائع وقال لإحداهما اذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها فذلك قوله { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } قوله على استحياء يعني على حياء لأنها كانت مقنعة ولم تك متبرجة ويقال: على استحياء يعني: على حياء لأنها كانت واضعة يدها على وجهها ويقال: على استحياء أي: مستترة بكم درعها (قال: فالوقف على تمشي إذا كان قولها على الحياء فأما إذا كان مشيها على الحياء فالوقف على استحياء والقول بالحياء أشبه من المشي بالحياء فكيف ما يقف يجوز بالمعنى) فقالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال ويقال: أقل من ذلك فتبعها فلم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال خائفاً مستوحشاً فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها وتظهر عجيزتها وجعل موسى عليه السلام يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك يعني: دليني الطريق فلما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب: اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال له شعيب: لم لا تأكل أما أنت جائع فقال: بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً فقال: لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي إنا نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل وأخبره بقصة القتل والهرب فذلك قوله عز وجل: { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } يعني: خرجت من ولاية فرعون ولا سلطان له في أرضنا وقال في رواية الكلبي: كان هذا الرجل اسمه نيرون ابن أخي شعيب وشعيب كان توفي قبل ذلك وقال عامة المفسرين: إن هذا كان شعيباً.