الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } * { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ }

كانت الآيات من أول هذه السورة إلى الآية 28 منها في شأن المؤمنين مع المشركين في القتال بعد فتح مكة واضمحلال دولة الشرك، وجاءت بضع آيات بعدها في شأن المؤمنين مع أهل الكتاب في القتال والجزية مع بيان حالهم في الخروج عن هداية دين أنبيائهم، يتلوها ما كان من إعلان النفير العام لقتال الروم في تبوك من أرض الشام المعروف. وفي الكلام عليها بيان أحوال المنافقين مع المؤمنين من استثقالهم للجهاد واستئذانهم في التخلف عنه وظهور أمارات نفاقهم في الأقوال والأفعال وفضيحتهم فيها، ووعيدهم عليها، وعلى نفاقهم الصادرة عنه. وما كان من ذلك في أثناء السفر والعودة منه. وانتهى ذلك بالآية الثمانين.

وعاد الكلام في هذه الآيات إلى بيان حال الذين تخلفوا عن القتال وظلوا في المدينة وما يجب من معاملتهم بعد الرجوع إليها، وكل هذا قد نزل في أثناء السفر. قال عز وجل:

{ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } الفرح شعور النفس بالارتياح والسرور، والخلاف مصدر خالفه يخالفه كالمخالفة، واستعمل ظرفا بمعنى بعد وخلف، قال في الأساس، وجلست خلاف فلان وخلفه أي بعده اهـ. ومنهوَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 76] وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص. وقرأ الباقون (خلفك) واستشهد اللسان على هذه اللغة ببضعة شواهد. وهاهنا يصح المعنيان.

والمخلفون اسم مفعول من خلف فلانا وراءه (بالتشديد) إذا تركه خلفه. والمعنى فرح المخلفين من هؤلاء المنافقين أي الذين تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم في بيوتهم مخالفين لله تعالى وله، وهذا المعنى أصح هنا، وإنما فرحوا لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من الأجر العظيم الذي لا تذكر بجانبه راحة القعود في البيوت شيئا { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ } أي قالوا لإخوانهم في النفاق لا تنفروا معه في الحر، نهياً لهم عن المعروف وإغراء بالثبات على المنكر.

وهو عدم النفر، أو قالوه تثبيتاً لهم فيه، وتثبيطا للمؤمنين عنه { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً }؟ أي قل أيها الرسول تفنيداً لقولهم وتسفيهاً لحلومهم: نار جهنم التي أعدها الله تعالى لمن عصاه وعصى رسوله أشد حراً من تلك الأيام في أوائل فصل الخريف فهو لا يلبث إن يخف ويزول، على كونه مما تحتمله الجسوم، وأما نار جهنم فحرها على شدته دائم، فهو يلفح وجوههم، وينضج جلودهم، وينزع شواهم: وفي هذا أكبر عبرة لمن يتركون الجهاد وغيره من الواجبات إيثارا للراحة والنعيم وما يفعله في حال وجوبه عليهم إلا المنافقون. ثم قال:

{ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا، ولما فرحوا بقعودهم إذ أجرموا فقعدوا، بل لحزنوا واكتأبوا، وبكوا وانتحبوا، كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا، وسيأتي بيان حالهم قريبا.

السابقالتالي
2 3 4