الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } * { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }

برئ الله ورسوله من المشركين الذين عاهدهم المسلمون على ترك القتال وأمهلهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحراراً آمنين، وأمر تعالى بالأذان العام إلى الناس في يوم عيد النحر من الموسم العام ببراءة الله ورسوله من المشركين، ودعوتهم إلى التوبة من الشرك وعداوة الإسلام، وإنذارهم سوء عاقبة الإعراض، واستثنى من المعاهدين الذين نبذت إليهم عهودهم من وفوا بعهدهم ولم ينقضوا منه شيئاً ولم يظاهروا على المؤمنين أحداً من أعدائهم فأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم، ثم أمر بما يترتب على النبذ والتوقيت فيه وعود حالة الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقتت بها العهود وهو مناجزة المشركين بكل نوع من أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق المواصلات، واستثنى منهم من يستجير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بإجارته حتى يسمع كلام الله.

ومن المعلوم من قواعد الإسلام العملية تعظيم شأن العهود على اختلاف أنواعها وعد الوفاء بها من أصول البر ومقتضى الإيمان كما قال تعالى في آية البر وأهله من سورة البقرة بعد ذكر الإيمان والصلاة والزكاةوَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [البقرة: 177] وكما قال في الوصايا الأساسية لهذا الدين من سورة الإسراءوَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34] إلى آيات أخرى ذكرنا قارئ تفسيرنا بها في مواضع منه بمناسبة ذكر العهد - والمناسب منها لما هنا ما ورد في سورة الأنفال من وجوب الوفاء بالعهد وتحريم الخيانة كالآية 56 و58 وفي معناها أحاديث كثيرة حسبك منها حديث: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا.

ولما كان للوفاء بالعهد كل هذا الشأن في الإسلام كان نبذ عهود المشركين مما قد يظن بادي الرأي أنه مخل به أو مما قد يظن قليل العلم بالقرآن والجمع بين نصوصه بالفهم الصحيح أن هذا النبذ ناسخ لوجوبه كما زعم بعضهم أو أن ذلك التعظيم للوفاء بالعهد وتأكيده كان مقيداً بحال ضعف المسلمين كما قال آخرون مثل هذا في آيات العفو والصفح عن المشركين - بل لما كان هذا النبذ مما يفتح باب الدس أو الطعن للمنافقين والتأويل للمرجفين في عصر التنزيل وقد يعظم على بعض المسلمين ويخفى عليهم الجمع بينه وبين تلك الآيات الكثيرة التي هي نصوص في أن الوفاء بالعهد من فضائل الدين الأساسية - لما كان كل ما ذكر كما ذكر - بين الله تعالى لنا في هاتين الآيتين وما بعدهما كون هذا النبذ وما يترتب عليه لا ينافي ولا يجافي شيئاً من تلك النصوص المحكمة وإنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو بدونه فقال:

{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } هذا الاستفهام للإنكار المشرب لمعنى التعجب، والخطاب للمؤمنين الذين رسخ خلق الوفاء في قلوبهم وكان بعضهم عرضة لقبول كلام المنافقين في إنكار النبذ، والمعنى: بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلى الله عليه وسلم يفي لهم به وتفون به اتباعاً له - وحالهم الذي بينته الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم؟ - { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } استثنى تعالى هؤلاء قبل أن يبين وجه انتفاء ثبوت العهد لغيرهم بأية صفة تثبت بها العهود بين الناس وهم الذين استثناهم في الآية الرابعة وقد تقدم ذكر الخلاف فيهم في تفسيرها، وزاد هنا: " عند المسجد الحرام " أي بجواره في الحديبية وهو مما يقتضي تأكيد الوفاء بذلك العهد بشروطه المبينة هناك وهنا.

السابقالتالي
2 3 4