الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }

هذا بيان لحال طائفة أخرى من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق. ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجؤن إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب لهم نكسوا على رءوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق، وهذا مثل من شر أمثالهم:

{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي ومن هؤلاء المنافقين من عاهد الله تعالى وأقسم أوكد الأيمان لئن آتاهم من فضله مالاً وثروة ليشكرن له نعمته بالصدقة منها والأعمال الشرعية النافعة التي ينتظمون بها في سلك الصالحين القائمين بحقوق الله وحقوق عباده. وأعاد اللام الواقعة في جواب القسم في { وَلَنَكُونَنَّ } لتأكيد العزم على الاستعانة والتوسل بفضل المال، إلى الاستقامة على منهج الصلاح، بما هو وراء الصدقات، التي عقدوا العهد والقسم عليها أولا وبالذات.

{ فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ما طلبوا من سعة رزقه { بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ }؟ أي ما لبثوا أن بخلوا بما آتاهم عقب حصوله وأمسكوه فلم يتصدقوا بشيء منه، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا وأقسموا، ولم يكن توليهم هذا أمراً عارضا شغلهم عنه شاغل يزول بزواله، بل تولوا { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }؟ بكل قواهم عن الصدقة والعمل الصالح، فكان الإعراض صفة راسخة فيهم حاكمة عليهم، بحيث إذا ذكروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا إليه لا يستجيبون.

{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } يقال أعقبه الشيء إذا جعله عاقبة أمره وثمرته - أي فأعقبهم الله تعالى أو أعقبهم ذلك البخل وتولي الإعراض، بعد العهد الموثق بأوكد الإيمان، نفاقا راسخا في قلوبهم متمكنا منها ملازما لها { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ }؟ للحساب في الآخرة، لأنه بلغ المنتهى الذي لا رجاء معه في التوبة. ذلك { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } فذكر سببين هما أخص صفات المنافقين وأظهر الآيات الدالة على نفاقهم: إخلاف الوعد والكذب كما تقدم بيانه ونصوص الأحاديث فيه، فكيف إذا كان الوعد لله تعالى مع العهد والقسم، وقد عبر عن إخلافهم الوعد بالفعل الماضي لأنه في حادثة وقعت، وعبر عن كذبهم بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، لأن ذلك شأنهم الدائم الذي هو أخص لوازم النفاق، فالمنافق مضطر إلى الكذب في كل وقت لأن ظاهره يخالف باطنه، ولابد له من كتمان ما في باطنه وإظهار خلافه دائما لئلا يظهر فيفتضح ويعاقب، ولا يحصل ذلك إلا بالكذب. وإسناد إعقابهم النفاق إلى الله تعالى أو إلى البخل والتولي عن الطاعة قولان للمفسرين مآلهما واحد، إلا أن الثاني آدب.

السابقالتالي
2 3 4