الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } * { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }

هذه الآيات في بيان شأن آخر من شؤون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك. أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى: { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } قال يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى أن لا يفشى علينا هذا. وأخرجوا إلا الأول منهم عن قتادة قال كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.

الجمهور على أن جملة (يحذر) خبر على ظاهرها، وعن الزجاج أنها إنشائية في المعنى، أي ليحذروا ذلك. وهو ضعيف: فالحذر كالتعب الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه كما يؤخذ من مفردات الراغب وأساس البلاغة (في مادتي ح ذر، وح رز) ويستعمل في الخوف الذي هو سببه وقد استشكل هذا الحذر منهم وهم غير مؤمنين بالوحي، وأجاب أبو مسلم عن هذا الإشكال بأنهم أظهروا الحذر استهزاء، وأجاب الجمهور بما حاصله إن أكثر المنافقين كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولم يكونوا موقنين بشيء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون بين المؤمنين الموقنين والكافرين الجازمين بالكفر، ومنهم من كان شكه قويا، ومن كان شكه ضعيفاً، وتقدم شرح حالهم وبيان أصنافهم في أول سورة البقرة فراجع تفسيره وما فيه من بلاغة المثلين اللذين ضربهما الله تعالى لهم. وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب، فلو كانوا موقنين بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا موقنين بتصديقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.

واختلف المفسرون في ضمير (عليهم) قال بعضهم هو للمنافقين المذكورين والمراد بنزوله عليهم نزوله في شأنهم، وبيان كنه حالهم، كقوله تعالى:وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } [البقرة: 102] أي في شأن ملكه. ويقال: كان كذا على عهد الخلفاء، أي في عهدهم، وزمنهم. والمراد بإنبائهم بما في قلوبهم لازمه وهو فضيحتهم وكشف عوارهم، وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم، وقال آخرون: هو للمؤمنين أي يحذر المنافقون أن ينزل على المؤمنين آية تنبئهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين الحذرين من الشك والارتياب وتربص الدوائر بهم أي بالمؤمنين، وغير ذلك من الشر الذي يسرونه في أنفسهم، والأضغان التي يخفونها في قلوبهم. قيل فيه تفكيك للضمائر، وأجيب بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع، ولا ينافي البلاغة إلا إذا كان المعنى به غير مفهوم.

ولنا في هذا المقام بحثان أحدهما: أنه ليس هاهنا تفكيك للضمائر، فإنه قد سبق إن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، وقد وبخهم الله تعالى على اهتمامهم بإرضاء المؤمنين دون إرضاء الله ورسوله وهما أحق بالإرضاء، وأوعدهم على ذلك بأنه محادة لله ورسوله يستحقون بها الخلود في النار، ثم بين بطريقة الاستئناف سبب حلفهم للمؤمنين واهتمامهم بإرضائهم، بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، فتبطل ثقتهم بهم، فأعيد الضمير على المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6