الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ }

روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقاً لهم شر من الحمر. فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت أشر من الحمار. فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: " ما حملك على الذي قلت "؟ فجعل يلتعن (أي يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول اللهم صدق الصادق، وكذب الكاذب، فأنزل الله في ذلك { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ }؟ الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله وسمى الرجل المسلم عامر بن قيس من الأنصار. وهذا ليس بحصر، بل المراد أن الآية نزلت في هذا وأمثاله، فإن من عادة المنافقين والكاذبين من عصاة المؤمنين وغيرهم أن يكثروا الحلف ليصدقوا لأنهم لعلمهم بكذبهم يظنون أو يعلمون أنهم متهمون في أقوالهم وأعمالهم، فيحلفون لإزالة التهمة، وهذا معلوم في كل زمان، وقد تقدم في الآية (42) من هذا السياق حلفهم أنهم لو استطاعوا الخروج في غزوة تبوك لخرجوا، والتصريح بعلم الله بكذبهم في حلفهم هذا - وفي الآية (56) منهوَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [التوبة: 56] إلخ وسيأتي في آية (74) منه مثل هذا الحلف على قول من الكفر قالوه إنهم ما قالوه، وفي آيات 95 و96 و107 منه نحو من ذلك.

فقوله تعالى: { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } خطاب للمؤمنين في بعض شؤون هؤلاء المنافقين معهم في غزوة تبوك، أخبرهم بأنهم شعروا بما لم يكونوا يشعرون من ظهور نفاقهم فكثر اعتذارهم وحلفهم للمؤمنين في كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول وعمل، ليرضوهم فيطمئنوا لهم، فتنتفي داعية إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بما ينكرون منهم، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } أي والحال إن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهراً معلوما باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو يوحي إلى رسوله من أمور الغيب ما فيه المصلحة.

وكان الظاهر أن يقال: " يرضوهما " ونكتة العدول عنه إلى (يرضوه) الإعلام بأن إرضاء رسوله من حيث أنه رسوله عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به، وهذا من بلاغة القرآن في الإيجاز، ولو قال (يرضوهما) لما أفاد هذا المعنى، إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر، وهو خلاف المراد هنا، وكذلك لو قيل (والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق إن يرضوه) لا يفيد هذا المعنى أيضاً وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل، وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم فقال بعضهم كأبي السعود: إن الضمير المفرد هنا يعود إلى ما فهم مما قبله الذي يفسر باسم الإشارة أو: " ما ذكر " كقول رؤبة:

السابقالتالي
2