الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }

هاتان الآيتان متصلتان بسياق الكلام في أهل الكتاب متممتان له ومقررتان لموعظة عامة تقتضيها المناسبة. ذلك بأنه تقدم في هذا السياق إن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً فعبدوا غيره من دونه، وإنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على عباده برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله لا يريد إطفاءه بل يريد إتمامه وقد فعل - فناسب أن يبين مع هذا شيئاً من سيرة جمهور هؤلاء الرؤساء الدينيين العملية، ليعرف المسلمون حقيقة حالهم والأسباب التي تحملهم على محاولة إطفاء نور الله تعالى، وإن أكثرهم يعبدون أهواءهم وشهواتهم، وذلك قوله عز وجل:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }؟ استعمل أكل الأموال بمعنى أخذها والتصرف فيها بوجوه الانتفاع التي يعد ما يبتاع بها للأكل أعم أنواع الاستعمال والتصرفات، وقد تقدم مثل هذا التعبير في قوله تعالى:وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [البقرة: 188] وقوله تعالى:يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ } [النساء: 29] وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحري الحق في عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر أو يطلق اللفظ العام ثم يستثني منه. فمن الأول قوله تعالى في اليهود:وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 62-63] ومن الثاني قوله تعالى قبل هاتين الآيتين فيهمقُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [المائدة: 59] ومن الثالث قوله في المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام منهموَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 46] وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على هذا العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر، وإنما نكرره لعظيم شأنه، وذكرنا منه هنا بعض ما أنزل في أهل الكتاب، من قبيل تفسير القرآن بالقرآن.

والمعنى العام لأكل أموال الناس بالباطل هو أخذها بغير وجه شرعي من الوجوه التي يبذل الناس فيها هذه الأموال بحق يرضاه الله عزّ وجلّ وهو أنواع.

منها: ما يبذله كثير من الناس لمن يعتقدون أنه عابد قانت لله زاهد في الدنيا ليدعو لهم ويشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم لاعتقادهم أن الله يستجيب دعاءه ولا يرد شفاعته - والدعاء مشروع دون أخذ المال به أو عليه والرجاء باستجابته حسن واعتقاده بالجزم جهل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد