الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ }

اعلم أن هذه الآية قاعدة من قواعد القتال الذي نزلت أهم قواعده وأحكامه في هذه السورة والتي قبلها، وإنما وضعت هاهنا على سنة القرآن في تفريق الموضوع الواحد الكثير الأحكام في مواضع متفرقة، وبينا حكمته آنفاً عوداً على بدء.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } أي الذين يدنون منكم وتتصل بلادهم ببلادكم، وذلك أن القتال شرع لتأمين الدعوة إلى الإسلام وحرية الدين والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله:لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } [الشورى: 7] وقال لأهل مكةوَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [الأنعام: 19] أي وكل من بلغته دعوته. بل أمره أن يخص الأقرب إليه في النسب من أهل بلده أم القرى فقال:وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214].

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال: كان الذين يلونه من الكفار العرب فقاتلهم حتى فرغ منهم - وعن قتادة قال: الأدنى فالأدنى - وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن غزو الديلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } قال: " الروم " ا هـ. يعني أن الروم هم المراد بالكفار في الآية لأنهم كانوا عند نزولها في هذه السورة بعد الفراغ من أمر يهود المدينة وخيبر هم الذين يلونهم في تبوك وسائر بلاد الشام.

وترجيح البدء بالأقرب فالأقرب معقول من وجوه كثيرة كالحاجة والإمكان والسهولة والنفقة، ولذلك كانت القاعدة فيه عامة في الدعوة والقتال والنفقات والصدقات، وكذا ما يدار في المجلس من شراب ونحوه فكان صلى الله عليه وسلم يعطي من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه فالذي يليه. وأمر بأن يأكل الإنسان مما يليه. وإنما تطرد القاعدة في الحالة العادية. وأما ما يعرض من ضرورة في كل ذلك فله حكمه فأحكام الضرورات مستثناة في الواجبات والمحرمات والآداب.

{ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي وليجدوا فيكم شدة وخشونة في القتال ومتعلقاته كما تقدم في تفسير آيةيٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73] (ج 10) والغلظة على المقاتلين في زمن الحرب من مقتضيات الطبيعة والمصلحة، وتنكيرها في الآية يدل على أن لأولي الأمر أن يحددوها في كل زمن وكل حال بما يتفق مع المصلحة، وإنما أمروا بها على كونها طبيعية لتقييد ما أمروا به في الأحوال العامة من الرفق والعدل والبر في معاملة الكفار حتى صار ذلك من أخلاق الإسلام، وأمر القتال مبني على الشدة والغلظة في كل الأمم، وقد حرم فظائعها الإسلام كما تقدم في تفسير سورة الأنفال، وقد بلغت فظائعها عند الإفرنج في هذا العصر ما يخشى أن يفضي إلى تدمير العمران كله.

{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } له في مراعاة أحكامه وسننه بالمعونة والنصر، وأهمها ما يجب اتقاؤه في الحرب، من التقصير في أسباب النصر والغلب التي بينها في كتابه، والتي تعرف بالعلم والتجارب، كإعداد ما يستطاع من قوة، والصبر والثبات، والطاعة والنظام، وترك التنازع والاختلاف، وكثرة ذكر الله، والتوكل عليه فيما وراء الأسباب، وقد بينا حقيقة معنى التقوى وأنواعها واختلاف المراد منها باختلاف مواضعها في تفسير (8: 29 ج 9).