الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

هاتان الآيتان في بيان حال المؤمنين حق الإيمان، البالغين فيه ما هو غاية له من الكمال، وضعتا بعد بيان حال المنافقين، وأصناف المؤمنين المقصرين، ومنهما تعرف جميع درجات المسلمين، ولا سيما المتخلفين عن الجهاد في سبيل الله.

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } هذا تمثيل لإثابة الله المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بتمليكهم الجنة دار النعيم الأبدي، والرضوان السرمدي، تفضل جل جلاله وعم نواله بجعلها من قبيل من باع شيئاً هو له لآخر، لطفاً منه تعالى وكرماً وتكريماً لعباده المؤمنين بجعلهم كالمتعاقدين معه كما يتعاقد البيعان على المنافع المتبادلة وهو عز وجل المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، والمالك لأموالهم إذ هو الذي رزقها، وهو غني عن أنفسهم وأموالهم. وإنما المبيع والثمن له وقد جعلهما بكرمه لهم.

وقوله: { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } بيان لصفة تسليم المبيع وهو أنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل الموصلة إلى مرضاته تعالى فيبذلون أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذا السبيل.

قرأ الجمهور بتقديم (يَقتلون) المبني للفاعل، وحمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول، فدلت القراءتان على أن الواقع هو أن يقتل بعضهم ويسلم بعض، وأنه لا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل، والمثوبة عند الله عز وجل، إذ كل منهما في سبيله لا حباً في سفك الدماء، ولا رغبة في اغتنام الأموال، ولا توسلاً إلى ظلم العباد، كما يفعل عباد الدنيا من الملوك ورؤساء الأجناد.

{ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ } أي وعدهم بذلك وعداً أوجبه لهم على نفسه. وجعله حقاً عليه أثبته في الكتب الثلاثة المنزلة على أشهر رسله، ولا تتوقف صحة هذا الوعد على وجوده في التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل الكتاب بنصه لما أثبتناه من ضياع كثير منهما، وتحريف بعض ما بقي لفظاً ومعنى، بل يكفي إثبات القرآن لذلك وهو مهيمن عليهما. (راجع ج 10).

{ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ }؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله عز وجل، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء، ولا يمكن أن يعرض له فيه التردد أو البداء، { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } الاستبشار الشعور بفرح البشرى أو استشعارها، الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتألق نورها، والجملة تقرير لتمام صفقة البيع من الجانبين { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } الذي لا يتعاظمه فوز، دون ما يتقدمه من النصر والسيادة والملك، الذي لا يعد فوزاً إلا بجعله وسيلة لإقامة الحق والعدل. أعلى الله تعالى مقام المؤمنين المجاهدين في سبيله فجعلهم بفضله مالكين معه، ومبايعين له، ومستحقين للثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء به وإنجازه، ويروى عن جدنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام في معنى الآية:

السابقالتالي
2 3 4 5 6