الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } * { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ } * { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }

الآيات الثلاث الأولى بيان لحال فريق معين من الكفار الذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه بعد بيان حال مشركي قومه في قتالهم له في بدر، والمراد بهذا الفريق اليهود الذين كانوا في بلاد العرب كلها أو الحجاز منها وهو الراجح عندي. قال سعيد ابن جبير نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تاوت أهـ أو يهود المدينة أو بنو قريظه منهم وهو قول مجاهد، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف كأبي جهل في مشركي مكة - والآية الرابعة في حكم أمثال هؤلاء الخونة، والخامسة في تهديدهم، وتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم من عاقبة كيدهم. قال تعالى:

{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي إن شر ما يدب على وجه الأرض عند الله أي في حكمه العدل على الخلق هم الكفار الذين جمعوا مع أصل الكفر الإصرار عليه والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمانهم جملتهم أو إيمان جمهورهم لأنهم بين رؤساء حاسدين للرسول صلى الله عليه وسلم معاندين له جاحدين بآيات الله المؤيدة لرسالته على علم كما قال تعالى فيهميَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146] الآية، وبين مقلدين جامدين على التقليد لا ينظرون في الدلائل والآيات، ولا يبحثون في الحجج والبينات، حتى حملهم ذلك على نقض العهود ونكث الأيمان بحيث لا حيلة في الحياة معهم أو في جوارهم حياة سلم وأمان كما ثبت بالتجربة.

عبر عنهم بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله في البهائم ذوات الأربع أو فيما يركب منها لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من عجماوات الدواب لأن فيها منافع للناس وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم فإنهم لشدة تعصبهم لجنسهم قد صاروا أعداء لسائر البشر كما قال في وصف أمثالهمأَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [الفرقان: 44] وكما قال في الآية 22 من هذه السورةإِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال: 22].

وقد اقتبس أستاذنا الإمام هذا الاستعمال فقال في مقالة من مقالات العروة الوثقى: وكثير ممن على شكل الإنسان يحيا حياته هذه بروح حيوان آخر وهو يعاني في تحصيل شهواتها - أو قال كلمة أخرى قريبة منها - أكثر مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان.

وقال: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فعبر عنهم بفعل الكفر دون الوصفٱلْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] للإشارة إلى أنهم كانوا مؤمنين فعرض لهم الكفر، وهذا ظاهر في جملة اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما كفروا بمن قبله وهم في عرف القرآن متكافلون متشابهون آخرهم في ذلك كأولهم، وهم أظهر في يهود المدينة الذين كانوا في عصر الرسالة المحمدية فإنهم كانوا يعلمون أن الله سيبعث النبي الكامل الذي بشر به موسى في التوراة كما تقدم مفصلا في تفسير سورة الأعراف ومجملا في سورة البقرة وغيرها وكانوا يعلمون أنه يبعث من العرب لأن من نصوص التوراة الموجودة إلى الآن أنه تعالى يبعث لهم نبيا مثل موسى بين بني أخوتهم أي بني إسماعيل، وكانوا يطمعون في أن يكون هذا النبي منهم ويرون أنه يكفي في صحة خبر التوراة ظهوره بين العرب وإن لم يكن منهم، لأن النبوة بزعمهم محتكرة محتجنة لبني إسرائيل، على ما اعتادوا من التحريف والتأويل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد