الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

هذه الآية آخر وصايا المؤمنين في هذا السياق وهي أعمها، والأصل الجامع لها ولغيرها، وكلمة الفرقان فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى في مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هي الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق ومعناها في أصل اللغة الفصل بين الشيئين أو الأشياء والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح والحكم الحق فيها، ولذلك فسّروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور في العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنمّا العلم الصحيح هو العلم التفصيلي الذي يميز بين الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمركبات، والنسب بين أجزاء المركبات، من الحسيات والمعنويات، ويبين كلّ شيء من ذلك ويعطيه حقّه الذي يكون به ممتازاً من غيره. وإيراد الأمثلة على ذلك يطول فيشغل عن القدر المحتاج إليه في تفسير لفظ الفرقان إلاّ أن نترك عوالم المادة وقواها ونأتي بمثال من اللغة لأن لفظ الفرقان من مفرداتها فنقول إن العامي يعلم من اللغة أمراً إجمالياً وهو أنّها ألفاظ يعبر بها الإنسان عما يحتاج إلى بيانه من علمه، ومن العلم التفصيلي فيها ما هو مبين في علم النحو والصرف وفي علوم المعاني والبيان والبديع والوضع والإشتقاق وأصول الفقه - كالعام والخاص والمطلق والمقيّد من الأخير مثلاً - وأنت ترى أنك بهذا البيان الوجيز لمعنى الفرقان قد اتضح لك من دلالته على العلم الصحيح والحكم الرجيح ما كان خفياً، وفصل منها ما كان مجملا ولذلك نعده من تفسير اللفظ لا استطراداً أجنبيا، ولا سيلا أتيا، كأكثر الذي يأتيه أكثر المفسرين من مباحث النحو وفنون البلاغة وغيرها.

وكما يكون الفرقان في مسائل العلوم وموادها من طبيعية وعقلية ولغوية، وفي الموجودات التي استنبطت العلوم منها يكون في الأحكام والشرائع والأديان، وفي الحكم بين الناس في المظالم والحقوق وفي الحروب، وقد أطلق الفرقان على أشهر الكتب الإلهية وهي التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على القرآنتَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] لأن كلام الله تعالى يفرّق في العلم والإعتقاد بين الإيمان والكفر والحق والباطل، وفي الأحكام بين العدل والجور، وفي الأعمال بين الصحيح والفاسد والخير والشر. وأطلق هذا اللفظ على يوم بدر كما سيأتي في هذه السورة مع بيان وجهه ومتعلق فصله وتفرقته.

فقوله تعالى: { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } معناه إن تتقوا الله في كلّ ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه في نظام خلقه، يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرّقون بها بين الحق والباطل، وتفصّلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتزيّلون بين الحجّة والشبهة.

السابقالتالي
2