الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } * { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ } * { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

نبدأ بتفسير الألفاظ الغريبة في الآيات فنقول (الزحف) مصدر زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي، أو، على ركبتيه قال امرؤ القيس:
فأقبلت زحفاً على الركبتيـ   ـن فثوب لبست وثوب أجر
والمشي بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف الدبا (صغار الجراد قبل طيرانها) قال في الأساس: وزحف البعير وأزحف: أعياً حتى جر فرسنه وزحّف الشيء جره جراً ضعيفاً، وزحف العسكر إلى العدو: مشوا إليهم في ثقل لكثرتهم، ولقوهم زحفاً، وتزاحف القوم وزاحفناهم، وأزحف لنا بنو فلان صاروا زحفاً لقتالنا. اهـ ملخصاً والزحف الجيش ويجمع على زحوف لخروجه عن معنى المصدرية. (والأدبار) جمع دبر (بضمتين) وهو الخلف ومقابله القبل بوزنه وهو القدام، ولذلك يكنى بهما عن السوأتين. وتولية الدبر والأدبار عبارة عن الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متولياً ومتوجهاً إلى دبره ومؤخره، وذلك أعون له على قتله إذا أدركه (والمتحرّف) للقتال أو غيره هو المنحرف عن جانب إلى آخر وأصله من الحرف وهو الطرف، وصيغة التفعيل تعطيه معنى التكلّف أو معاناة الفعل المرّة بعد المرّة أو بالتدريج وفي معناه (المتحيّز) وهو المنتقل من حيز إلى آخر، والحيّز المكان، ومادّته الواو، فالحوز المكان يبنى حوله حائط، قال في الأساس: انحاز عن القوم: اعتزلهم، وانحاز إليهم وتحيز انضم. وذكر جملة الآية (والفئة) الطائفة من الناس (والمأوى) الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان وينضم و (موهن) الشيء مضعفه اسم فاعل من أوهنه أي أضعفه ومثله وهنه وهنا ووهنه توهينا. و (الكيد) التدبير الذي يقصد به غير ظاهرة فتسوء غايته المكيد به كما تقدم في تفسير الآية 183 من سورة الأعراف. والإستفتاح طلب الفتح والفصل في الأمر، كالنصر في الحرب.

والمعنى { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } أي إذا لقيتموهم حال كونهم زاحفين زحفاً لقتالكم كما كانت الحال في غزوة بدر فإن الكفّار هم الذين زحفوا من مكّة إلى المدينة لقتال المؤمنين فثقفوهم في بدر { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } أي: فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عدداً وعدداً، وإذا كان التزاحف من الفريقين أو كان الزحف من المؤمنين فتحريم الفرار والهزيمة أولى، ولفظ لقيتموهم زحفا يصلح للأحوال الثلاثة ورجح الأوّل هنا بقرينة الحال التي نزلت فيها الآية وكون النهي عن التولي والفرار إنّما يليق بالمزحوف عليه لأنّه مظنة له، ويليه ما إذا كان التزاحف من الفريقين. وأمّا الزاحف المهاجم فليس مظنة للتولي والإنهزام فيبدأ بالنهي عنه وهو منه أقبح.

{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } عبر بلفظ تولية الدبر في وعيد كلّ فرد كما عبر به في نهي الجماعة لتأكيد حرمة جريرة الفرار من الزحف وكون الفرد فيها كالجماعة وآثر هذا اللفظ مفرداً وجمعاً على لفظ الظهور والظهر أو القفا والأقفية زيادة في تشنيعها لأنّه لفظ يكنى به عن السوأة أي وكلّ من يولهم يوم إذ تلقونهم دبره { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي إلاّ متحرفاً لمكان من أمكنة القتال رآه أحوج إلى القتال فيه - أو متحرفاً لضرب من ضروبه رآه أبلغ في النكاية بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه بإتباعه فينفرد عن أشياعه فيكرّ عليه فيقتله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي متنقلاً إلى فئة من المؤمنين في حيز غير الذي كان فيه لينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليه ممن كان في حيزهم { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي فقد رجع متلبساً بغضب عظيم من الله عليه { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير جهنم، كأن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه من الهلاك فعوقب على ذلك بجعل عاقبته التي يصير إليها دار الهلاك والعذاب الدائم، أي جوزي بضد غرضه من معصية الفرار، وقد تكرر في التنزيل التعبير عن جهنم والنار بالمأوى وهو إما من قبيل ما هنا وإما للتهكم المحض، فإنّك إذا راجعت إستعمال هذا الحرف في غير هذا المقام من التنزيل تجده لا يذكر إلاّ في مقام النجاة من خوف أو شدة كقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8