الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

لمّا بيّن الله سبحانه أخذه لأهل القرى الذين كذّبوا الرسل بما كان من كفرهم وظلمهم لأنفسهم وللناس بيّن لأهل أم القرى " مكّة " ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل، واعتبروا بالسنن، فقال: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ } أي آمنوا بما دعاهم إليه رسلهم من عبادة لله وحده بما شرعه من الأعمال الصالحة واتقوا ما نهوهم عنه من الشرك والفساد في الأرض بالظلم والمعاصي كارتكاب الفواحش، وأكل أموال الناس بالباطل، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } قرأ الجمهور فتحنا بالتخفيف من الفتح وقرأها ابن عامر لتشد له من التفتيح الدال على الكثرة، والمعنى لفتحنا عليهم أنواعاً من بركات السماء والأرض لم يعهدوها مجتمعة ولا متفرقة، فإذا أريد ببركات السماء معارف الوحي العقلية، وأنوار الإيمان الروحانية، ونفحات الإلهامات الربانية، فالمعنى أن فائدة الإيمان واتباع الرسل عليهم السلام تكون تكميل الفطرة البشرية روحاً وجسداً، وغايته سعادة الدارين الدنيا والآخرة، وإذا أريد ببركات السماء المطر وببركات الأرض النبات كما قيل فالمعنى أنها أبواب نعم تكون بركات لهم غير التي عهدوا في صفتها ونمائها وثباتها وحالتهم فيها وأثرها فيهم، وبذلك تكون بركات فإن مادة البركة تدل على السعة والزكاء من بركة الماء، وعلى الثبات، والإستقرار من برك البعير، ألم تقرأ أو تسمع قوله تعالى من سورة هود:قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] فخص المؤمنين بالبركات وجعل نعمة الدنيا متاعاً مؤقتاً للكافرين يتلوه العذاب، ولملك لم يعطفهم على من قبلهم روي عن محمد بن كعب القرظي أنّه دخل في تلك البركات كلّ مؤمن ومؤمنة - وفي ذلك المتاع والعذاب الأليم كلّ كافر وكافرة. وعن الضحاك قال:وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [هود: 48] يعني ممن لم يولد أوجب لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادةوَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ } [هود: 48] يعني متاع الحياة الدنياثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.

فالقاعدة المقررة في القرآن أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب لسعادة الدنيا ونعمتها بالحق والإستحقاق وأن الكفار قد يشاركونهم في الماديّ منها كما قال تعالى فيهم من سورة الأنعامفَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44] فذلك الفتح ابتلاء واختبار لحالهم كان أثره فيهم فرح البطر والأشر بدلاً من الشكر وترتب عليه العقاب الإلهي فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة.

وأمّا المؤمنون فإن ما يفتح عليهم يكون بركة ونعمة ويكون أثره فيهم الشكر لله عليه والرضا منه والاغتباط بفضله، واستعماله في سبيل الخير دون الشرّ، وفي الإصلاح دون الإفساد، ويكون جزاؤهم عليه من الله تعالى زيادة النعم ونموها في الدنيا وحسن الثواب عليها في الآخرة، فالفارق بين الفتحين يؤخذ من جعل هذا من البركات الربانية، ومن تنكيره الدال على أنواع لم يعهدها الكفار.

السابقالتالي
2