الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } * { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

سنن الله وحكمه في هذه القصص وأمثالها والإعتبار بها

من سنّة القرآن الحكيم أنّه يبيّن العقائد بدلائلها، والأحكام مؤيّدة بحكمها وعللها، والقصص مقرونة بوجوه: العبرة والموعظة بها وسُنن الإجتماع فيها، كما ترى في هذه الآيات التسع التي قفي بها على قصص القوم المُهلكين.

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }. الواو في أوّل الآية لعطف الجملة وما بعدها إلى آخر السياق الذي وضعنا له العنوان على مجموع ما قبلهن من القصص لمشاركته إياه في كونه حكماً له وعبراً مستفادة منه - فعطف الجمل يشمل الكثير منها (كالسياق برمّته) ولا وجه للفصل هنا. والقرية المدينة الجامعة لزعماء الأمّة ورؤسائها التي يعبّر عنها في عرف هذا العصر بالعاصمة كما تقدّم مراراً وكان الأنبياء يُبعثون في القرى الجامعة لأنّ سائر البلاد تتّبع أهلها إذا آمنوا.

والبأساء الشدّة والمشقّة كالحرب والجدب وشدّة الفقر، والضرّاء ما يضرّ الإنسان في بدنه أو نفسه أو معيشته، والأخذ بها جعلها عقاباً، وقد تكون تجربة وتربية نافعة.

وتقدّم مثل هذا في قوله تعالى من سورة الأنعام:وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام: 42] فيراجع (في ج 7) فإنّه بمعنى ما هنا ولكن السياق مختلف، فلما كان ما هنا قد ورد عقب قصص طائفة من الرسل جعل هذا المعنى قاعدة كلية وسنة مطردة في الرسل مع أقوامهم ليعتبر به كلّ من سمعه أو قرأه في عصر التنزيل وما بعده. ولما كان ما هنالك قد ورد في سياق تبليغ خاتم الرسل للدعوة ومحاجة قومه جعل خطاباً خبرياً له لتسليته وتثبيت قلبه من جهة ولتخويف كفار قريش وإنذارهم من جهة أخرى - وهذا ملاحظ هنا أيضاً ولكن بالتبع للإعتبار بالسنة العامة لا بالقصد الأوّل.

والمعنى: ذلك شأن الرسل مع أقوامهم الهالكين، وما أرسلنا نبياً في قوم إلاّ وقد أنزلنا بهم الشدائد والمصائب بعد إرساله أو قبيله لنعدّهم ونؤهلهم بها للتضرع وهو إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع لنا، والإخلاص في دعائنا بكشفها، فلعل تقيّد الأعداد للشيء وجعله مرجواً. وممّا ثبت بالتجارب وتقرر عند علماء النفس والأخلاق إن الشدائد وملاحج الأمور ممّا يربي الناس ويصلح من فسادهم، فالمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربّه، والشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها بفقدها، فينقلب شاكراً بعد عودها، بل الكافر بالله عزَّ وجلّ قد تنبه الشدائد والأهوال مركز الشعور بوجود الرب الخالق المدبّر لأمور الخلق في دماغه، وتذكره بما أودع في فطرته من وجود مصدر لنظام الكون وأقداره، كما وقع كثيراً، والآيات في هذا كثيرة تقدّم بعضها، وقد روي لنا إن الحرب العظمى قد كان لها هذا التأثير حتى في أقل الناس تديناً وهم أهل مدينة باريس فكانت المعابد ترى مكتظة بالمصلّين في أثناء شدائد الحرب.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8