الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } * { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ }

هذه الآيات وما بعدها تتمّة قصّة شعيب عليه السلام، مبدوءة بجواب قومه له عمّا أمرهم به من البر ونهاهم عنه من المنكرات والآثام، وأنذرهم إياه من الإنتقام، بقوله:فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } [الأعراف: 87] ورد بأسلوب الإستئناف البياني كأمثاله من مراجعة الكلام، وتولاه الملأ منهم أي كُبراء رجالهم كدأب الجماعات والأقوام، وهو: { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي قال أشراف قومه وأكابرهم الذين استكبروا عن الإيمان له وعتوا عما أمرهم به ونهاهم عنه اتباعاً لأهوائهم - وقد استضعفوه نقسم لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا الجامعة أو من بلادنا كلّها - فلفظ القرية والبلد يطلق أحياناً على القطر أو المملكة - أو لتعودن وترجعن إلى ملّتنا وما ندين به من تقاليدنا الموروثة عن آبائنا، فتكون ملّة لكم ومحيطة بكم معنا. ضمن العود معنى الظرفية وهو يتعدى باللام وإلى وفي ومنه:أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ } [الإسراء: 69] يعني البحر إذ الخطاب قبله لمن مسهم الضر فيه وليس فيه من معنى الظرفية ما في قوله:مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه: 55] يعني الأرض. والمعنى نقسم ليكونن أحد هذين الأمرين: إخراجكم أو عودتكم في الملة. فاختاروا لأنفسكم، قيل إن التعبير بالعود يقتضي أنهم كانوا على ملّتهم ثمّ خرجوا منها وهو يصدق بالمجموع فلا ينافي القول بعصمة الأنبياء من الكفر حتى قبل النبوة، على أن شعيباً عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملّة أخرى غير ملّة قومه فيمنعهم ذلك من التعبير في شأنه بالعودة، وكونه لم يشاركهم في شركهم ولا في بخس الناس أشياءهم وهضم حقوقهم أمر سلبي لا يلتفت إليه جمهورهم، ولا يعدونه به خارجاً عنهم، وقال الراغب: العود الرجوع إلى الشيء بعد الإنصراف عنه إما إنصرافاً بالذات أو بالقول والعزيمة. اهـ ومنه ذمه والدعوة إلى غيره ولا يقتضي هذا المعنى سبق الكون فيه ولا عدمه، فلا حاجة إذن إلى تصحيح التعبير بما قيل من تفسير العود بالمصير، وفيه من التكلّف ما ليس في القول بالتغليب، ولا سيّما في جوابه عليه السلام.

{ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يعني العود في ملّتكم على كلّ حال من الأحوال حتى حال الكراهة لها الناشئة عن إعتقاد بطلانها وقبحها وما يترتب عليها من الفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة؟ فالإستفهام للإنكار و " لو " للغاية، أو أتأمروننا أن نعود فيها وتهددوننا بالنفي من وطننا والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكلّ من الأمرين؟ - على الأصل فيما يحذف متعلقه، وهو أن يتناول كلّ ما يصلح له، فالإستفهام للتعجب من صنيعهم واستنكار طلبهم ورفضه بدون مبالاة، ووجه كلّ من الإنكار والتعجب جهل هؤلاء الملأ بكنه الدين والملة، وكونه عقيدة يدان الله بها، وأعمالاً يتقرب إليه بأدائها وإن كان غنياً عنها، وإنّما شرعها لتكمل الفطرة البشرية بالتزامها - وجهلهم بكون حب الوطن، وإلف السكن، لا يبلغ هذه المنزلة، ولجهلهم هذا ظنوا أن شعيباً عليه السلام قد يُؤثر هو ومن آمن معه التمتع بالإقامة في وطنه ومجاراة أهله في كفرهم ورذائلهم على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهر للنفس من إدران الخرافات، وبالفضائل المرقية للنفس في معارج الكمال، ذلك بأن الملة عند أولئك الملأ الخاسرين رابطة تقليدية، وعصبية قومية، يجري أصحابها فيها على قول الشاعر:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7