الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

ما تقدم من بيان الجزاء وحال أهل الجنة وأهل النار إنذار عام وموضوعه عام إلا أنه ألقى بادىء بدء على أهل مكة ومن وراءهم من العرب فلهذا جوز المفسرون في ضمائر هاتين الآيتين أن تكون عامة تشمل الأمم السالفة ويكون الكتاب في الأولى منهما للجنس، وأن تكون خاصة بهذه الأمة، وموقعها مما قبلها على الوجهين واحد وهو بيان حجة الله على على البشر كافة، وإزاحة علل الكفار وإبطال معاذيرهم إن لم يستعدوا لذلك الجزاء بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل، والمختار عندنا الثاني. قال عز وجل:

{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي ولقد جئنا هؤلاء الناس بكتاب عظيم الشأن، كامل التبيان، وهو القرآن فصلنا آياته تفصيلاً على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل لتزكية أنفسهم، وتكميل فطرتهم، وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، حال كونه أو لأجل أن يكون بذلك منار هداية عامة وسبب رحمة خاصة لقوم يؤمنون به إيمان إذعان يبعث على العمل بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، وهو بهذا التفصيل العلمي حجة على من لا يؤمنون به إذا لم يهتدوا به، ولم يرضوا لأنفسهم أن تكون أهلاً لرحمته.

التفصيل عبارة عن جعل الحقائق والمسائل المراد بيانها مفصولاً بعضها من بعض ما يزيل الاشتباه، واختلاط بعضها ببعض في الأفهام، وليس معناه ذكر كل نوع منها على حدته ولا التطويل ببيان جميع فروعه، ففي القرآن تفصيل كل شيء نحتاج إليه في أمر ديننا: أسهب حيث ينبغي الإسهاب، وأوجز حيث يكفي الإيجاز.

مثال ذلك في العقائد أن البشر قد فتنوا بالشرك، ولبس على أكثرهم الأمر ففرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، إذ ظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الخلق ومدبر أموره هو الواجب له الممتنع أن يكون له شريك فيه، دون توحيد الإلهية وهو عبادته وحده، وأنه لا يضر التوجه إلى غيره من المقربين عنده، المقربين من يتوسل بهم إليه كما يتوجه إليه بالدعاء، وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب، وهذا مخ العبادة ومحضها، وكل من يدعي مثل هذا الدعاء فقد اتخذ معبوداً وإلهاً. وشبهتهم في القديم والحديث أن اتخاذ ولي مع الله بقصد التقرب والتوسل به إليه وشفاعته عنده مما يرضيه. وأن المحظور هو الاستغناء به عنه، مأخذ هذا ما يعهدون من الملوك الظالمين الذين يتقرب إليهم الرعايا الضعفاء المستذلون بوزرائهم، ويتوسلون إليهم بحواشيهم وحجابهم، فلأجل هذه الشبهات قرر القرآن إبطال هذا الشرك وأطنب في تفصيله كل الإطناب.

ومثاله في العبادات العملية أن صفة الصلاة وعدد ركعاتها مما يكفي فيه القدوة والتأسي بالرسول الموكول إليه بيان التنزيل فلهذا لم يبينها القرآن على الوجه الذي تؤدى به، ولكنه كرر الأمر بإقامتها أي الإتيان بها على أقوم وجه وأكمله، وبين حكمتها وفائدتها في عدة آيات.

السابقالتالي
2 3