كانت الآية الأولى من السورة في بيان إنزال الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به كل الناس، وذكرى وموعظة لأهل الإيمان، والآية الثانية استئناف بياني لما يبدأ به من التبليغ وهو أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وأن لا يتبعوا من دونه أحداً يتولونه في أمر التشريع الخاص بالرب تعالى. ولما كان الإنذار تعليماً مقروناً بالتخويف من عاقبة المخالفة قفى على هذه القاعدة الأولى التي هي أم القواعد لأصول الدين بالتخويف من عاقبة المخالفة لها ولما يتلوها من أصول الدين وفروعه فبدأ في هاتين الآيتين بالتخويف من عذاب الدنيا فقال: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } ([كم]) خبرية تفيد الكثرة، والقرية تطلق على الأمة قال الراغب: القرية للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعاً (أي معاً) ويستعمل لكل منهما، قال تعالى:{ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] قال كثير من المفسرين معناه أهل القرية، وقال بعضهم بل القرية هاهنا القوم أنفسهم اهـ. أي من غير تقدير مضاف. والذين يقولون بالتقدير يرون إنه لا حاجة إليه هنا لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها ولكنهم يقدرون المضاف في قوله: { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا } فيقولون: جاء أهلها بأسنا - بدليل وصفهم بالبيات والقيلولة والمدينة لا تبيت ولا تقيل. والبيات الإغارة على العدو ليلاً والإيقاع به فيه على غفلة منه فهو إسم للتبييت، وهو يشمل ما يدبره المرء أو ينويه ليلاً، ومنه تبييت نية الصيام. وقيل يأتي مصدراً لبات يبيت إذا أدركه الليل. والبأس الشدة والقوة والعذاب الشديد وهو المراد هنا، والقائلون هم الذين يقيلون أي ينامون للإستراحة وسط النهار، وقيل: يستريحون وإن لم يناموا، يقال قال يقيل قيلاً وقيلولة. والمعنى وكثيراً من القرى أهلكناها لعصيان رسلها فيما جاءوها به من عند ربها فكان هلاكها على ضربين بأن جاء بعضهم بأسنا حال كونهم مبيتين أو بائتين ليلاً كقوم لوط، وجاء بعضهم وهم قائلون آمنون نهاراً كقوم شعيب. والوقتان وقتا دعة واستراحة ففيه إيذان بأنه لا ينبغي للعاقل أن يأمن صفو الليالي ولا مواتاة الأيام، ولا يغتر بالرخاء فيعده آية على الإستحقاق له الذي هو مظنة الدوام، وقد يعذر بالغفلة قبل مجيء النذير، وأما بعده فلا عذر ولا عذير. وفيه تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزة عصبيتهم، وبما كانوا يزعمون أنها آية رضى الله عنهم{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ: 35] وليس أمرهم بأعجب من الأقوام التي عرفت هداية القرآن، أو سنن الله في نوع الإنسان، ثم هي تغتر بما هي عليه وإن كان دليلاً على الهلاك، ولا ترجع عن غيها حتى يأتيها العذاب.